الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَيَسْأَلُكَ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ مَا كَانَ شَأْنُهُ، وَمَا كَانَتْ قِصَّتُهُ، فَقُلْ لَهُمْ: سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْ خَبَرِهِ ذَكَرًا يَقُولُ: سَأَقُصُّ عَلَيْكُمْ مِنْهُ خَبَرًا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الَّذِينَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَمْرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، كَانُوا قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. فَأَمَّا الْخَبَرُ بِأَنَّ الَّذِينَ سَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ كَانُوا مُشْرِكِي قَوْمِهِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ. وَأَمَّا الْخَبَرُ بِأَنَّ الَّذِينَ سَأَلُوهُ، كَانُوا قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَحَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ. قَالَ: ثَنَا زَيْدُ بْنُ حَبَّابٍ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، قَالَ: ثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَنْعَمَ، عَنْ شَيْخَيْنِ مِنْ تُجِيبَ، قَالَ: أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: انْطَلَقَ بِنَا إِلَى عَقَبَةَ بْنِ عَامِرٍ نَتَحَدَّثُ، قَالَا فَأَتَيَاهُ فَقَالَا جِئْنَا لِتُحَدُّثِنَا، فَقَالَ: «"كُنْتُ يَوْمًا أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ، فَلَقِيَنِي قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَالُوا: نُرِيدُ أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَأْذَنْ لَنَا عَلَيْهِ، فَدَخَلُتُ عَلَيْهِ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: مَا لِي وَمَا لَهُمْ، مَا لِيَ عِلْمٌ إِلَّا مَا عَلَّمَنِي اللَّهُ "، ثُمَّ قَالَ: اسْكُبْ لِي مَاءً، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى، قَالَ: فَمَا فَرَغَ حَتَّى عَرَفْتُ السُّرُورَ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ: "أَدْخِلْهُمْ عَلَيَّ، وَمَنْ رَأَيْتَ مِنْ أَصْحَابِي فَدَخَلُوا فَقَامُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: إِنْ شِئْتُمْ سَأَلْتُمْ فَأَخْبَرْتُكُمْ عَمَّا تَجِدُونَهُ فِي كِتَابِكُمْ مَكْتُوبًا، وَإِنْ شِئْتُمْ أَخْبَرْتُكُمْ، قَالُوا: بَلَى أَخْبَرْنَا، قَالَ: جِئْتُمْ تَسْأَلُونِي عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ، وَمَا تَجِدُونَهُ فِي كِتَابِكُمْ: كَانَ شَابًّا مِنَ الرُّومِ، فَجَاءَ فَبَنَى مَدِينَةَ مِصْرَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ، فَلَمَّا فَرَغَ جَاءَهُ مَلَكٌ فَعَلَا بِهِ فِي السَّمَاءِ، فَقَالَ لَهُ مَا تَرَى؟ فَقَالَ: أَرَى مَدِينَتِي وَمَدَائِنَ، ثُمَّ عَلَا بِهِ، فَقَالَ: مَا تَرَى؟ فَقَالَ: أَرَى مَدِينَتِي، ثُمَّ عَلَا بِهِ فَقَالَ: مَا تَرَى؟ قَالَ: أَرَى الْأَرْضَ، قَالَ: فَهَذَا الْيَمُّ مُحِيطٌ بِالدُّنْيَا، إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكَ تَعْلَّمُ الْجَاهِلَ، وَتُثَبِّتُ الْعَالِمَ، فَأَتَى بِهِ السَّدَّ، وَهُوَ جَبَلَانِ لَيِّنَانِ يَزْلَقُ عَنْهُمَا كُلُّ شَيْءٍ، ثُمَّ مَضَى بِهِ حَتَّى جَاوَزَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، ثُمَّ مَضَى بِهِ إِلَى أُمَّةٍ أُخْرَى، وُجُوهُهُمْ وُجُوهُ الْكِلَابِ يُقَاتِلُونَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، ثُمَّ مَضَى بِهِ حَتَّى قَطَعَ بِهِ أُمَّةً أُخْرَى يُقَاتِلُونَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وُجُوهُهُمْ وُجُوهُ الْكِلَابِ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى قَطَعَ بِهِ هَؤُلَاءِ إِلَى أُمَّةٍ أُخْرَى قَدْ سَمَّاهُم». وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيالْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ قِيلَ لِذِي الْقَرْنَيْنِ: ذُو الْقَرْنَيْنِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قِيلَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ ضُرِبَ عَلَى قَرْنِهِ فَهَلَكَ، ثُمَّ أُحْيِي فَضُرِبَ عَلَى الْقَرْنِ الْآخَرِ فَهَلَكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حَمِيدٍ، قَالَ: ثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ عُبَيْدٍ الْمُكْتِبِ، عَنْ أَبِي الطُّفِيلِ، قَالَ: سَأَلَ ابْنُ الْكَوَّاءِ عَلِيًّا عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ، فَقَالَ: هُوَ عَبْدٌ أَحَبَّ اللَّهَ فَأَحَبَّهُ، وَنَاصَحَ اللَّهَ فَنَصَحَهُ، فَأَمَرَهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ بَعَثَهُ اللَّهُ، فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ فَمَاتَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: سُئِلَ عَلَيٌّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ، فَقَالَ: كَانَ عَبْدًا نَاصَحَ اللَّهَ فَنَاصَحَهُ، فَدَعَا قَوْمُهُ إِلَى اللَّهِ، فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ فَمَاتَ، فَأَحْيَاهُ اللَّهُ، فَدَعَا قَوْمَهُ إِلَى اللَّهِ فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ فَمَاتَ، فَسُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبَى بَزَّةَ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا وَسَأَلُوهُ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ أَنَبِيًّا كَانَ؟ قَالَ: كَانَ عَبْدًا صَالِحًا، أَحَبَّ اللَّهَ، فَأَحَبَّهُ اللَّهُ، وَنَاصَحَ اللَّهُ فَنَصَحَهُ، فَبَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى قَوْمِهِ، فَضَرَبُوهُ ضَرْبَتَيْنِ فِي رَأْسِهِ، فَسُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ، وَفِيكُمُ الْيَوْمَ مِثْلُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ الْبُخَارِيُّ، قَالَ: ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ، قَالَ: ثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ، قَالَ: قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: كَانَ ذُو الْقَرْنَيْنِ مَلِكًا، فَقِيلَ لَهُ: فَلِمَ سُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ؟ قَالَ: اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَلِكُ الرُّومِ وَفَارِسَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ فِي رَأْسِهِ شِبْهُ الْقَرْنَيْنِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا سُمِّيَ ذَلِكَ لِأَنَّ صَفْحَتَيْ رَأْسِهِ كَانَتَا مِنْ نُحَاسٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حَمِيدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ. قَالَ: ثَنِي ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ. قَالَ: ثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ الْيَمَانِيِّ، قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ أَنَّ صَفْحَتَيْ رَأْسِهِ كَانَتَا مِنْ نُحَاسٍ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِ شَيْءٍ سَبَبًا} يَقُولُ: إِنَّا وَطَّأْنَا لَهُ فِي الْأَرْضِ، {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِ شَيْءٍ سَبَبًا} يَقُولُ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، يَعْنِي مَا يَتَسَبَّبُ إِلَيْهِ وَهُوَ الْعِلْمُ بِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِ شَيْءٍ سَبَبًا} يَقُولُ: عِلْمَا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِ شَيْءٍ سَبَبًا} أَيْ عِلْمًا. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِ شَيْءٍ سَبَبًا} قَالَ: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا. - حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِ شَيْءٍ سَبَبًا} قَالَ: عِلْمُ كُلِّ شَيْءٍ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِ شَيْءٍ سَبَبًا} عِلْمًا. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: ثَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِ شَيْءٍ سَبَبًا} يَقُولُ: عَلِمَا. وَقَوْلُهُ: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ، فَاتَّبَعَ بِوَصْلِ الْأَلِفِ، وَتَشْدِيدِ التَّاءِ، بِمَعْنَى: سَلَكَ وَسَارَ، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: اتَّبَعَتْ أَثَرَ فُلَانٍ: إِذَا قِفْوَتُهُ؛ وَسِرْتُ وَرَاءَهُ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ {فَأَتْبَعَ} بِهَمْزِ الْأَلِفِ، وَتَخْفِيفِ التَّاءِ، بِمَعْنَى لَحِقَ. وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ: قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ (فَاتَّبَعَ) بِوَصْلِ الْأَلِفِ، وَتَشْدِيدِ التَّاءِ، لِأَنَّ ذَلِكَ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْمِسِيرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ فِي الْأَرْضِ الَّتِي مَكَّنَ لَهُ فِيهَا، لَا عَنْ لَحَاقِهِ السَّبَبَ، وَبِذَلِكَ جَاءَ تَأْوِيلُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ " فَاتَّبَعَ سَبَبًا" يَعْنِي بِالسَّبَبِ، الْمَنْـزِلُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: (سَبَبًا) قَالَ: مَنْـزِلًا وَطَرِيقًا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ الْأَسَدِيُّ، قَالَ: ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي يَحْيَى، عَنْ مُجَاهِدٍ " فَاتَّبَعَ سَبَبًا" قَالَ: طَرِيقًا فِي الْأَرْضِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ " فَاتَّبَعَ سَبَبًا": اتَّبَعَ مَنَازِلَ الْأَرْضِ وَمَعَالِمَهَا. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ "فَاتَّبَعَ سَبَبًا قَالَ: هَذِهِ الْآنَ سَبَبُ الطُّرُقِ كَمَا قَالَ فِرْعَوْنُ {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} قَالَ: طُرُقُ السَّمَاوَاتِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: " فَاتَّبَعَ سَبَبًا" قَالَ: مَنَازِلُ الْأَرْضِ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ، فِي قَوْلِهِ "فَاتَّبَعَ سَبَبًا" قَالَ: الْمَنَازِلُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ} ذُو الْقَرْنَيْنِ {مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ}، فَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَهُ بَعْضُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ {فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} بِمَعْنَى: أَنَّهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنِ مَاءٍ ذَاتِ حَمْأَةٍ، وَقَرَأَتْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ، وَعَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ "فِي عَيْنٍ حَامِيَة" يَعْنِي أَنَّهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنِ مَاءٍ حَارَّةٍ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِهِمْ ذَلِكَ عَلَى نَحْوِ اخْتِلَافِ الْقُرَّاءِ فِي قِرَاءَتِهِ. ذِكْرُ مِنْ قَالَ {تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ}: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ أَبَى عَدِيٍّ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} قَالَ: ذَاتُ حَمْأَةٍ. حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْجُنَيْدِ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَاضَرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ: قَرَأَ مُعَاوِيَةُ هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ: "عَيْنٌ حَامِيَةٌ " فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهَا عَيْنٌ حَمِئَةٌ، قَالَ: فَجَعَلَا كَعْبًا بَيْنَهُمَا، قَالَ: فَأَرْسَلَا إِلَى كَعْبِ الْأَحْبَارِ، فَسَأَلَاهُ، فَقَالَ كَعْبٌ: أَمَّا الشَّمْسُ فَإِنَّهَا تَغِيبُ فِي ثَأْطٍ، فَكَانَتْ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، والثَّأْطُ: الطِّينُ. حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: ثَنِي نَافِعُ بْنُ أَبِي نُعَيْمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجَ يَقُولُ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ {فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} ثُمَّ فَسَّرَهَا. ذَاتُ حَمْأَةٍ، قَالَ نَافِعٌ: وَسُئِلَ عَنْهَا كَعْبٌ، فَقَالَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِالْقُرْآنِ مِنِّي، وَلَكِنِّي أَجِدُهَا فِي الْكِتَابِ تَغِيبُ فِي طِينَةٍ سَوْدَاءَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} قَالَ: هِيَ الْحَمْأَةُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} قَالَ: ثَأْطٌ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} قَالَ: ثَأْطَةٌ. قَالَ: وَأَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَرَأْتُ {فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} وَقَرَأَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ "فِي عَيْنٍ حَامِيَة" فَأَرْسَلْنَا إِلَى كَعْبٍ. فَقَالَ: إِنَّهَا تَغْرُبُ فِي حَمْأَةِ طِينَةٍ سَوْدَاءَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} وَالْحَمِئَةُ: الْحَمْأَةُ السَّوْدَاءُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ وَرْقَاءَ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ هَذَا الْحَرْفَ {فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} وَيَقُولُ: حَمْأَةٌ سَوْدَاءُ تَغْرُبُ فِيهَا الشَّمْسُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هِيَ تَغِيبُ فِي عَيْنٍ حَارَّةٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ "وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَامِيَة" يَقُولُ: فِي عَيْنٍ حَارَّةٍ. حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ "فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ " قَالَ: حَارَّةٌ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ "فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ" قَالَ: حَارَّةٌ، وَكَذَلِكَ قَرَأَهَا الْحَسَنُ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مُسْتَفِيضَتَانِ فِي قِرَاءَةِ الْأَمْصَارِ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَجْهٌ صَحِيحٌ وَمَعْنًى مَفْهُومٌ، وَكِلَا وَجْهَيْهِ غَيْرُ مُفْسِدِ أَحَدِهِمَا صَاحِبَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ تَكُونَ الشَّمْسُ تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَارَّةٍ ذَاتِ حَمْأَةٍ وَطِينٍ، فَيَكُونُ الْقَارِئُ فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ بِصِفَتِهَا الَّتِي هِيَ لَهَا، وَهِيَ الْحَرَارَةُ، وَيَكُونُ الْقَارِئُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَاصِفُهَا بِصِفَتِهَا الَّتِي هِيَ بِهَا وَهِيَ أَنَّهَا ذَاتُ حَمْأَةٍ وَطِينٍ. وَقَدْ رُوِيَ بِكِلَا صِيغَتَيْهَا اللَّتَيْنِ إِنَّهُمَا مِنْ صِفَتَيْهَا أَخْبَارٌ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْعَوَّامُ، قَالَ: ثَنِي مَوْلًى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الشَّمْسِ حِينَ غَابَتْ، فَقَالَ: فِي نَارٍ اللَّهِ الْحَامِيَةِ، فِي نَارِ اللَّهِ الْحَامِيَةِ، لَوْلَا مَا يَزَعُهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ لَأَحْرَقَتْ مَا عَلَى الْأَرْض». حَدَّثَنِي الْفَضْلُ بْنُ دَاوُدَ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ مُصَدَّعٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأهُ: " حَمِئَة» وَقَوْلُهُ: {وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا} ذُكِرَ أَنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ يُقَالُ لَهُمْ: نَاسِكٌ. وَقَوْلُهُ: {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ} يَقُولُ: إِمَّا أَنْ تَقْتُلَهُمْ إِنْ هُمْ لَمَّ يَدْخُلُوا فِي الْإِقْرَارِ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، وَيُذْعِنُوا لَكَ بِمَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنْ طَاعَةِ رَبِّهِمْ {وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} يَقُولُ: وَإِمَّا أَنْ تَأْسِرَهُمْ فَتُعْلِّمَهُمُ الْهُدَى وَتُبَصِّرَهُمُ الرَّشَادَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا}. يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} يَقُولُ: أَمَّا مِنْ كَفَرَ فَسَوْفَ نَقْتُلُهُ. كَمَا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِيقَوْلِهِ: {أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} قَالَ: هُوَ الْقَتْلُ. وَقَوْلُهُ {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا} يَقُولُ: ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ قَتْلِهِ، فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا عَظِيمًا، وَهُوَ النُّكْرُ، وَذَلِكَ عَذَابُ جَهَنَّمَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا}. يَقُولُ: وَأَمَّا مَنْ صَدَّقَ اللَّهَ مِنْهُمْ وَوَحَّدَهُ، وَعَمِلَ بِطَاعَتِهِ، فَلَهُ عِنْدُ اللَّهِ الْحُسْنَى، وَهِيَالْجَنَّةُ، جَزَاءً يَعْنِي ثَوَابًا عَلَى إِيمَانِهِ، وَطَاعَتِهِ رَبَّهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَبَعْضُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ {فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} بِرَفْعِ الْجَزَاءِ وَإِضَافَتِهِ إِلَى الْحُسْنَى. وَإِذَا قُرِئَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَلَهُ وَجْهَانِ مِنَ التَّأْوِيلِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجْعَلَ الْحُسْنَى مُرَادًا بِهَا إِيمَانُهُ وَأَعْمَالُهُ الصَّالِحَةُ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ إِذَا أُرِيدَ بِهَا ذَلِكَ: وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاؤُهَا، يَعْنِي جَزَاءَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْنِيًّا بِالْحُسْنَى: الْجَنَّةُ، وَأُضِيفَ الْجَزَاءُ إِلَيْهَا، كَمَا قِيلَ {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} وَالدَّارُ: هِيَ الْآخِرَةُ، وَكَمَا قَالَ: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} وَالدِّينُ: هُوَ الْقَيِّمُ. وَقَرَأَ آخَرُونَ: {فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} بِمَعْنَى: فَلَهُ الْجَنَّةُ جَزَاءٌ فَيَكُونُ الْجَزَاءُ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَصْدَرِ. بِمَعْنَى: يُجَازِيهِمْ جَزَاءَ الْجَنَّةِ. وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ: {فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} بِنَصْبِ الْجَزَاءِ وَتَنْوِينِهِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي وَصَفَتْ، مِنْ أَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ جَزَاءً. فَيَكُونُ الْجَزَاءُ نَصْبًا عَلَى التَّفْسِيرِ. وَقَوْلُهُ: {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} يَقُولُ: وَسَنُعَلِّمُهُ نَحْنُ فِي الدُّنْيَا مَا تَيَسَّرَ لَنَا تَعْلِيمُهُ مَا يُقَرِّبُهُ إِلَى اللَّهِ وَيَلِينُ لَهُ مِنَ الْقَوْلِ. وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ نَحْوًا مِمَّا قُلْنَا فِي ذَلِكَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى "ح"، وَحَدْثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ {مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} قَالَ مَعْرُوفًا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلُهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ سَارَ وَسَلَكَ ذُو الْقَرْنَيْنِ طُرُقًا وَمَنَازِلَ. كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} يَعْنِي مَنُـزِلًا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} مَنَازِلَ الْأَرْضِ وَمَعَالِمَهَا {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَوَجَدَ ذُو الْقَرْنَيْنِ الشَّمْسَ تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا، وَذَلِكَ أَنَّ أَرْضَهُمْ لَا جَبَلَ فِيهَا وَلَا شَجَرَ، وَلَا تَحْتَمِلُ بِنَاءً فَيَسْكُنُوا الْبُيُوتَ، وَإِنَّمَا يَغُورُونَ فِي الْمِيَاهِ، أَوْ يَسْرَبُونَ فِي الْأَسْرَابِ. كَمَا حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُسْتَمِرُّ، قَالَ: ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ وَأَبُو دَاوُدَ، قَالَ: ثَنَا سَهْلُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ السَّرَّاجِ، عَنِ الْحَسَنِ {تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} قَالَ: كَانَتْ أَرْضًا لَا تَحْتَمِلُ الْبِنَاءَ، وَكَانُوا إِذَا طَلَعَتْ عَلَيْهِمُ الشَّمْسُ تَغُورُ فِي الْمَاءِ، فَإِذَا غَرَبَتْ خَرَجُوا يَتَرَاعَوْنَ كَمَا تَرْعَى الْبَهَائِمُ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ الْحَسَنُ: هَذَا حَدِيثُ سَمُرَةَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي مَكَانٍ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ الْبَنَّاءُ، وَإِنَّمَا يَكُونُونَ فِي أَسْرَابٍ لَهُمْ، حَتَّى إِذَا زَالَتْ عَنْهُمُ الشَّمْسُ خَرَجُوا إِلَى مَعَايِشِهِمْ وَحُرُوثِهِمْ، قَالَ: {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا}. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} قَالَ: لَمْ يَبْنُوا فِيهَا بِنَاءً قَطُّ، وَلَمْ يُبْنَ عَلَيْهِمْ فِيهَا بِنَاءٌ قَطُّ، وَكَانُوا إِذَا طَلَعَتْ عَلَيْهِمُ الشَّمْسُ دَخَلُوا أَسْرَابًا لَهُمْ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، أَوْ دَخَلُوا الْبَحْرَ، وَذَلِكَ أَنَّ أَرْضَهُمْ لَيْسَ فِيهَا جَبَلٌ، وَجَاءَهُمْ جَيْشٌ مَرَّةً، فَقَالَ لَهُمْ أَهْلُهَا: لَا تَطْلُعْنَّ عَلَيْكُمُ الشَّمْسُ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَقَالُوا: لَا نَبْرَحُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، مَا هَذِهِ الْعِظَامُ؟ قَالُوا: هَذِهِ جِيَفُ جَيْشٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِمُ الشَّمْسُ هَاهُنَا فَمَاتُوا، قَالَ: فَذَهَبُوا هَارِبِينَ فِي الْأَرْضِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي مَكَانٍ لَا يَثْبُتُ عَلَيْهِمْ بِنَاءٌ، فَكَانُوا يَدْخُلُونَ فِي أَسْرَابٍ لَهُمْ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ، حَتَّى تَزُولَ عَنْهُمْ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ إِلَى مَعَايِشِهِمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُمُ الزِّنْجُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ {تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} قَالَ: يُقَالُ: هُمُ الزِّنْجُ. وأَمَّا قَوْلُهُ: (كَذَلِكَ) فَإِنَّ مَعْنَاهُ: ثُمَّ أَتْبَعُ سَبَبًا كَذَلِكَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ؛ وَكَذَلِكَ: مِنْ صِلَةِ أَتْبَعَ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا، حَتَّى بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ، كَمَا أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى بَلَغَ مَغْرِبَهَا. وَقَوْلُهُ {وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} يَقُولُ: وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا عِنْدَ مَطْلِعِ الشَّمْسِ عِلْمًا لَا يَخْفَى عَلَيْنَا مَا هُنَالِكَ مِنَ الْخَلْقِ وَأَحْوَالِهِمْ وَأَسْبَابِهِمْ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ شَيْءٌ. وَبِالَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى الْخَبَرِ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: (خُبْرًا) قَالَ: عِلْمًا. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلُهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} قَالَ: عِلْمًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ سَارَ طُرُقًا وَمَنَازِلَ، وَسَلَكَ سُبُلًا {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ}. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} بِضَمِّ السِّينِ وَكَذَلِكَ جَمِيعُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ بِضَمِّ السِّينِ. وَكَانَ بَعْضُ قُرَّاءِ الْمَكِّيِّينَ يَقْرَءُونَهُ بِفَتْحِ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَكَانَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ يَفْتَحُ السِّينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَيَضُمُّ السِّينَ فِي يس، وَيَقُولُ: السَّدُّ بِالْفَتْحِ: هُوَ الْحَاجِزُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الشَّيْءِ؛ وَالسُّدُّ بِالضَّمِّ: مَا كَانَ مِنْ غِشَاوَةٍ فِي الْعَيْنِ. وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ فَإِنَّ قِرَاءَةَ عَامَّتِهِمْ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ بِفَتْحِ السِّينِ غَيْرَ قَوْلِهِ: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} فَإِنَّهُمْ ضَمُّوا السِّينَ فِي ذَلِكَ خَاصَّةً. وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي ذَلِكَ، مَا حَدَّثَنَا بِهِ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: ثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ هَارُونَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: مَا كَانَ مِنْ صَنْعَةِ بَنِي آدَمَ فَهُوَ السَّدُّ، يَعْنِي بِالْفَتْحِ، وَمَا كَانَ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ فَهُوَ السُّدُّ. وَكَانَ الْكِسَائِيُّ يَقُولُ: هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مُسْتَفِيضَتَانِ فِي قِرَاءَةِ الْأَمْصَارِ، وَلُغَتَانِ مُتَّفِقَتَا الْمَعْنَى غَيْرُ مُخْتَلِفَةٍ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ، وَلَا مَعْنَى لِلْفَرْقِ الَّذِي ذُكِرَ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، وَعِكْرِمَةَ بَيِّنَ السُّدِّ وَالسَّدِّ، لِأَنَّا لَمْ نَجِدْ لِذَلِكَ شَاهِدًا يُبَيِّنُ عَنْ فَرْقٍ مَا بَيْنَ ذَلِكَ عَلَى مَا حُكِيَ عَنْهُمَا. وَمَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ الَّذِي رُوِيَ لَنَا عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلٌ- لَمْ يُحْكَ لَنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ تَفْصِيلٌ بَيْنَ فَتْحِ ذَلِكَ وَضَمِّهِ، وَلَوْ كَانَا مُخْتَلِفَيِ الْمَعْنَى لَنُقِلَ الْفَصْلُ مَعَ التَّأْوِيلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَلَكِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ كَانَ عِنْدَهُمْ غَيْرَ مُفْتَرِقٍ، فَيُفَسِّرُ الْحَرْفَ بِغَيْرِ تَفْصِيلٍ مِنْهُمْ بَيْنَ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَا ذُكِرَ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الَّذِي نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ أَيُّوبَ وَهَارُونَ، وَفِي نَقْلِهِ نَظَرٌ، وَلَا نَعْرِفُ ذَلِكَ عَنْ أَيُّوبَ مِنْ رِوَايَةِ ثِقَاتِ أَصْحَابِهِ. وَالسَّدُّ وَالسُّدُّ جَمِيعًا: الْحَاجِزُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، وَهُمَا هَاهُنَا فِيمَا ذُكِرَ جَبَلَانِ سَدَّ مَا بَيْنَهُمَا، فَرَدَمَ ذُو الْقَرْنَيْنِ حَاجِزًا بَيْنَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَمِنْ وَرَاءِهُمْ، لِيَقْطَعَ مَادَّ غَوَائِلِهِمْ وَعَبَثَهُمْ عَنْهُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} قَالَ: الْجَبَلَيْنِ الرَّدْمُ الَّذِي بَيْنَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، أُمَّتَيْنِ مِنْ وَرَاءِ رَدْمِ ذِي الْقَرْنَيْنِ: قَالَ: الْجَبَلَانِ: أَرْمِينِيَّةُ وَأَذْرَبِيجَانُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} وَهُمَا جَبَلَانِ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: ثَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ {بَيْنَ السَّدَّيْنِ} يَعْنِي بَيْنَ جَبَلَيْنِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ {بَيْنَ السَّدَّيْنِ} قَالَ: هُمَا جَبَلَانِ. وَقَوْلُهُ {وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ: وُجْدٌ مِنْ دُونِ السَّدَّيْنِ قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلَ قَائِلٍ سِوَى كَلَامِهِمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ (يَفْقَهُونَ) فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ {يَفْقَهُونَ قَوْلًا} بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْيَاءِ، مِنْ فَقَهَ الرَّجُلُ يَفْقَهُ فِقْهًا: وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ {يَفْقَهُونَ قَوْلًا} بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ: مَنْ أَفْقَهْتُ فُلَانًا كَذَا أُفْقَهُهُ إِفْقَاهًا: إِذَا فَهَّمْتُهُ ذَلِكَ. وَالصَّوَابُ عِنْدِي مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ، إِنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مُسْتَفِيضَتَانِ فِي قِرَاءَةِ الْأَمْصَارِ، غَيْرُ دَافِعَةٍ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ هَذَا الْخَبَرَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونُوا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا لِغَيْرِهِمْ عَنْهُمْ، فَيَكُونُ صَوَابًا الْقِرَاءَةُ بِذَلِكَ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونُوا مَعَ كَوْنِهِمْ كَذَلِكَ كَانُوا لَا يَكَادُونَ أَنْ يُفَقِّهُوا غَيْرَهُمْ لِعِلَلٍ: إِمَّا بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَإِمَّا بِمَنْطِقِهِمْ، فَتَكُونُ الْقِرَاءَةُ بِذَلِكَ أَيْضًا صَوَابًا. وَقَوْلُهُ {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} فَقَرَأَتِ الْقُرَّاءُ مَنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَغَيْرِهِمْ "إِنَّ ياجُوجَ وماجُوجَ " بِغَيْرِ هَمْزٍ عَلَى فَاعُولٍ مَنْ يَجَجْتُ وَمَجَجْتُ، وَجَعَلُوا الْأَلِفَيْنِ فِيهِمَا زَائِدَتَيْنِ، غَيْرُ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ وَالْأَعْرَجِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُمَا قَرَآ ذَلِكَ بِالْهَمْزِ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَجَعَلَا الْهَمْزَ فِيهِمَا مِنْ أَصْلِ الْكَلَامِ، وَكَأَنَّهُمَا جَعَلَا يَأْجُوجَ: يَفْعُولَ مَنْ أَجَّجْتُ، وَمَأْجُوجَ: مَفْعُولَ. وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي هِيَ الْقِرَاءَةُ الصَّحِيحَةُ عِنْدَنَا، "إِنَّ ياجُوجَ وماجُوجَ" بِأَلِفٍ بِغَيْرِ هَمْزٍ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ الْكَلَامُ الْمَعْرُوفُ عَلَى أَلْسُنِ الْعَرَبِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ. لَـوْ أَنَّ يَـاجُوجَ وَمَـاجُوجَ مَعًـا *** وَعَـادَ عَـادُوا وَاسْتَجَاشُـوا تُبَّعًـا وَهُمْ أُمَّتَانِ مِنْ وَرَاءِ السَّدِّ. وَقَوْلُهُ: {مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الْإِفْسَادِ الَّذِي وَصَفَ اللَّهُ بِهِ هَاتَيْنِ الْأُمَّتَيْنِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانُوا يَأْكُلُونَ النَّاسَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْوَلِيدَ الرَّمْلِيُّ، قَالَ: ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَيُّوبَ الْخُوزَانِيُّ، قَالَ: ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} قَالَ: كَانُوا يَأْكُلُونَ النَّاسَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: إِنَّيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ سَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، لَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَوْمئِذٍ يُفْسِدُونَ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، وَذَكَرَصِفَةَ اتِّبَاعِ ذِي الْقَرْنَيْنِ الْأَسْبَابَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَكَرَ سَبَبَ بِنَائِهِ لِلرَّدْمِ: حَدَّثَنَا ابْنُ حَمِيدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثَنِي بَعْضُ مَنْ يَسُوقُ أَحَادِيثَ الْأَعَاجِمِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، مِمَّنْ قَدْ أَسْلَمَ، مِمَّا تَوَارَثُوا مَنْ عَلِمَ ذِي الْقَرْنَيْنِ، أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ كَانَ رَجُلًا مَنْ أَهْلِ مِصْرَ اسْمُهُ مَرْزُبَا بْنُ مَرْدُبَةَ الْيُونَانِيُّ، مَنْ وُلِدَ يُونَانَ بْنِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: ثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ الْكُلَاعِيِّ، وَكَانَ خَالِدٌ رَجُلًا قَدْ أَدْرَكَ النَّاسَ "«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ ذى الْقَرْنَيْنِ فَقَالَ مَلِكٌ مَسَحَ الْأَرْضَ مِنْ تَحْتِهَا بِالْأَسْبَاب»" قَالَ خَالِدٌ: وَسَمِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَجُلًا يَقُولُ: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ غَفْرًا، أَمَا رَضِيتُمْ أَنْ تَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ، حَتَّى تَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الْمَلَائِكَةِ؟ فَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ ذَلِكَ، فَالْحَقُّ مَا قَالَ، وَالْبَاطِلُ مَا خَالَفَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: ثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ الْيَمَانِيِّ، وَكَانَ لَهُ عِلْمٌ بِالْأَحَادِيثِ الْأُوَلِ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: ذُو الْقَرْنَيْنِ رَجُلٌ مِنَ الرُّومِ، ابْنُ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِهِمْ، لَيْسَ لَهَا وَلَدٌ غَيْرُهُ، وَكَانَ اسْمُهُ الْإِسْكَنْدَرُ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ أَنَّ صَفْحَتَيْ رَأْسِهِ كَانَتَا مِنْ نُحَاسٍ؛ فَلَمَّا بَلَغَ وَكَانَ عَبْدًا صَالِحًا، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنِّي بَاعِثُكَ إِلَى أُمَمِ الْأَرْضِ، وَهِيَ أُمَمٌ مُخْتَلِفَةٌ أَلْسِنَتُهُمْ، وَهُمْ جَمِيعُ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَمِنْهُمْ أُمَّتَانِ بَيْنَهُمَا طُولُ الْأَرْضِ كُلُّهُ؛ وَمِنْهُمْ أُمَّتَانِ بَيْنَهُمَا عَرَضُ الْأَرْضِ كُلُّهُ، وَأُمَّةٌ فِي وَسَطِ الْأَرْضِ مِنْهُمُ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ. فَأَمَّا الْأُمَّتَانِ اللَّتَانِ بَيْنَهُمَا طُولُ الْأَرْضِ: فَأُمَّةٌ عِنْدَ مَغْرِبِ الشَّمْسِ، يُقَالُ لَهَا: نَاسِكٌ. وَأَمَّا الْأُخْرَى: فَعِنْدَ مَطْلِعِهَا يُقَالُ لَهَا: مَنْسَكٌ. وَأَمَّا اللَّتَانِ بَيْنَهُمَا عَرْضُ الْأَرْضِ، فَأُمَّةٌ فِي قُطْرِ الْأَرْضِ الْأَيْمَنِ، يُقَالُ لَهَا: هَاوِيلُ. وَأَمَّا الْأُخْرَى الَّتِي فِي قُطْرِ الْأَرْضِ الْأَيْسَرِ، فَأُمَّةٌ يُقَالُ لَهَا: تَاوِيلُ؛ فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ لَهُ ذُو الْقَرْنَيْنِ: إِلَهِي إِنَّكَ قَدْ نَدَبْتَنِي لِأَمْرٍ عَظِيمٍ لَا يَقْدِرُ قَدْرَهُ إِلَّا أَنْتَ، فَأَخْبَرَنِي عَنْ هَذِهِ الْأُمَمِ الَّتِي بَعَثْتَنِي إِلَيْهَا، بِأَيِّ قُوَّةٍ أَكَابِدُهُمْ، وَبِأَيِّ جَمْعٍ أَكَاثِرُهُمْ، وَبِأَيِّ حِيلَةٍ أُكَايِدُهُمْ، وَبِأَيِّ صَبْرٍ أُقَاسِيهُمْ، وَبِأَيِّ لِسَانٍ أُنَاطِقُهُمْ، وَكَيْفَ لِي بِأَنَّ أَفْقَهَ لُغَاتِهِمْ، وَبِأَىِّ سَمْعٍ أَعِي قَوْلَهُمْ، وَبِأَيِّ بَصَرٍ أَنْفُذُهُمْ، وَبِأَيِّ حُجَّةٍ أُخَاصِمُهُمْ، وَبِأَيِّ قَلْبٍ أَعْقِلُ عَنْهُمْ، وَبِأَيِّ حِكْمَةٍ أُدَبِّرُ أَمْرَهُمْ، وَبِأَيِّ قِسْطٍ أَعْدِلُ بَيْنِهِمْ، وَبِأَيِّ حِلْمٍ أُصَابِرُهُمْ، وَبِأَيِّ مَعْرِفَةٍ أَفْصِلُ بَيْنَهُمْ، وَبِأَيِّ عِلْمٍ أُتْقِنُ أُمُورَهُمْ، وَبِأَيِّ يَدٍ أَسْطُو عَلَيْهِمْ، وَبِأَيِّ رِجْلٍ أَطَؤُهُمْ، وَبِأَيِّ طَاقَةٍ أَخْصِمَهُمْ، وَبِأَيِّ جُنْدٍ أُقَاتِلُهُمْ، وَبِأَيِّ رِفْقٍ أَسَتَأْلِفُهُمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ عِنْدِي يَا إِلَهِي شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْتُ يَقُومُ لَهُمْ، وَلَا يَقْوَى عَلَيْهِمْ وَلَا يُطِيقُهُمْ. وَأَنْتَ الرَّبُّ الرَّحِيمُ. الَّذِي لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَلَا يُحَمِّلُهَا إِلَّا طَاقَتَهَا، وَلَا يُعْنِتُهَا وَلَا يَفْدَحُهُا، بَلْ أَنْتَ تَرْأَفُهَا وَتَرْحَمُهَا. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنِّي سَأُطَوِّقُكَ مَا حَمَّلْتُكُ، أَشْرَحُ لَكَ صَدْرَكَ، فَيَسَعُ كُلَّ شَيْءٍ وَأَشْرَحُ لَكَ فَهْمَكَ فَتَفْقَهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَبْسُطُ لَكَ لِسَانَكَ، فَتَنْطِقُ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَأَفْتَحُ لَكَ سَمْعَكَ فَتَعِي كُلَّ شَيْءٍ، وَأَمُدُّ لَكَ بَصَرَكَ، فَتَنْفُذُ كُلَّ شَيْءٍ، وَأُدَبِّرُ أَمْرَكَ فَتَتُقْنُ كُلَّ شَيْءٍ، وَأُحْصِي لَكَ فَلَا يَفُوتُكَ شَيْءٌ، وَأَحْفَظُ عَلَيْكَ فَلَا يَعْزُبُ عَنْكَ شَيْءٌ، وَأَشُدُّ لَكَ ظَهْرَكَ، فَلَا يَهُدُّكَ شَيْءٌ، وَأَشُدُّ لَكَ رُكْنَكَ فَلَا يَغْلِبُكَ شَيْءٌ، وَأَشُدُّ لَكَ قَلْبَكَ فَلَا يُرَوِّعُكَ شَيْءٌ، وَأُسَخِّرُ لَكَ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ، فَأَجْعَلُهُمَا جُنْدًا مِنْ جُنُودِكَ، يَهْدِيكَ النُّورُ أَمَامَكَ، وَتَحُوطُكَ الظَّلَمَةُ مِنْ وَرَائِكَ، وَأَشُدُّ لَكَ عَقْلَكَ فَلَا يَهُولُكَ شَيْءٌ، وَأَبْسُطُ لَكَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ، فَتَسْطُو فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَشُدُّ لَكَ وَطْأَتَكَ، فَتَهُدُّ كُلَّ شَيْءٍ، وَأُلْبِسُكَ الْهَيْبَةَ فَلَا يَرُومُكَ شَيْءٌ. وَلِمَا قِيلَ لَهُ ذَلِكَ، انْطَلَقَ يَؤُمُّ الْأَمَةَ الَّتِي عِنْدَ مَغْرِبِ الشَّمْسِ، فَلَمَّا بَلَغَهُمْ، وَجَدَ جَمْعًا وَعَدَدًا لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ، وَقُوَّةً وَبَأْسًا لَا يُطِيقُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَأَلْسِنَةً مُخْتَلِفَةً وَأَهْوَاءً مُتَشَتِّتَةً، وَقُلُوبًا مُتَفَرِّقَةً، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ كَاثَرَهُمْ بِالظُّلْمَةِ، فَضَرَبَ حَوْلَهُمْ ثَلَاثَةَ عَسَاكِرَ مِنْهَا، فَأَحَاطَتْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، وَحَاشَتْهُمْ حَتَّى جَمَعَتْهُمْ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ أَخَذَ عَلَيْهِمْ بِالنُّورِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى عِبَادَتِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ لَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ، فَعَمَدَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا عَنْهُ. فَأَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الظُّلْمَةَ.فَدَخَلَتْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَأُنُوفِهِمْ وَآذَانِهِمْ وَأَجْوَافِهِمْ، وَدَخَلَتْ فِي بُيُوتِهِمْ وَدَوْرِهِمْ، وَغَشِيَتْهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ وَمِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنْهُمْ، فَمَاجُوا فِيهَا وَتُحَيِّرُوا، فَلَمَّا أَشْفَقُوا أَنْ يَهْلَكُوا فِيهَا عَجُّوا إِلَيْهِ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ، فَكَشَفَهَا عَنْهُمْ وَأَخَذَهُمْ عَنْوَةً، فَدَخَلُوا فِي دَعْوَتِهِ، فَجَنَّدَ مِنْ أَهْلِ الْمَغْرِبِ أُمَمًا عَظِيمَةً، فَجَعَلَهُمْ جُنْدًا وَاحِدًا، ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِمْ يَقُودُهُمْ، وَالظُّلْمَةُ تَسُوقُهُمْ مَنْ خَلْفِهِمْ وَتَحْرُسُهُمْ مِنْ حَوْلِهِمْ، وَالنُّورُ أَمَامَهُمْ يَقُودُهُمْ وَيَدُلُّهُمْ، وَهُوَ يَسِيرُ فِي نَاحِيَةِ الْأَرْضِ الْيُمْنَى، وَهُوَ يُرِيدُ الْأُمَّةَ الَّتِي فِي قُطْرِ الْأَرْضِ الْأَيْمَنِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا هَاوِيلُ. وَسَخَّرَ اللَّهُ لَهُ يَدَهُ وَقَلْبَهُ وَرَأْيَهُ وَعَقْلَهُ وَنَظَرَهُ وَائْتِمَارَهُ، فَلَا يُخْطِئُ إِذَا ائْتَمَرَ، وَإِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَتْقَنَهُ. فَانْطَلَقَ يَقُودُ تِلْكَ الْأُمَمَ وَهِيَ تَتْبَعُهُ، فَإِذَا انْتَهَى إِلَى بَحْرٍ أَوْ مَخَاضَةٍ بَنَى سُفُنًا مِنْ أَلْوَاحٍ صِغَارٍ أَمْثَالِ النِّعَالِ، فَنَظَّمَهَا فِي سَاعَةٍ، ثُمَّ جَعَلَ فِيهَا جَمِيعَ مَنْ مَعَهُ مِنْ تِلْكَ الْأُمَمِ وَتِلْكَ الْجُنُودِ، فَإِذَا قَطَعَ الْأَنْهَارَ وَالْبِحَارَ فَتَقَهَا، ثُمَّ دُفِعَ إِلَى كُلِّ إِنْسَانٍ لَوْحًا فَلَا يَكْرُثُهُ حَمْلُهُ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ دَأْبُهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى هَاوِيلَ، فَعَمِلَ فِيهَا كَعَمَلِهِ فِي نَاسِكٍ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا مَضَى عَلَى وَجْهِهِ فِي نَاحِيَةِ الْأَرْضِ الْيُمْنَى حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَنْسَكٍ عِنْدَ مَطْلِعِ الشَّمْسِ، فَعَمِلَ فِيهَا وَجَنَّدَ مِنْهَا جُنُودًا، كَفِعْلِهِ فِي الْأُمَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا، ثُمَّ كَرَّ مُقْبِلًا فِي نَاحِيَةِ الْأَرْضِ الْيُسْرَى، وَهُوَ يُرِيدُ تَاوِيلَ وَهِيَ الْأُمَّةُ الَّتِي بِحِيَالِ هَاوِيلَ، وَهُمَا مُتَقَابِلَتَانِ بَيْنَهُمَا عَرْضُ الْأَرْضِ كُلُّهُ؛ فَلَمَّا بَلَغَهَا عَمِلَ فِيهَا، وَجَنَّدَ مِنْهَا كَفِعْلِهِ فِيمَا قَبْلَهَا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا عَطْفَ مِنْهَا إِلَى الْأُمَمِ الَّتِي وَسْطَ الْأَرْضِ مِنَ الْجِنِّ وَسَائِرِ النَّاسِ، وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ مِمَّا يَلِي مُنْقَطَعَ التُّرْكِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، قَالَتْ لَهُ أُمَّةٌ مِنَ الْإِنْسِ صَالِحَةٌ: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ، إِنَّ بَيْنَ هَذَيْنَ الْجَبَلَيْنِ خَلْقًا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ مُشَابِهٌ لِلْإِنْسِ، وَهُمْ أَشْبَاهُ الْبَهَائِمِ، يَأْكُلُونَ الْعُشْبَ، وَيَفْتَرِسُونَ الدَّوَابَّ وَالْوُحُوشَ كَمَا تَفْتَرِسُهَا السِّبَاعُ، وَيَأْكُلُونَ خَشَاشَ الْأَرْضِ كُلَّهَا مِنَ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ، وَكُلَّ ذِي رَوْحٍ مِمَّا خَلَقَ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ، وَلَيْسَ لِلَّهِ خَلْقٌ يَنْمُو نَمَاءَهُمْ فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ، وَلَا يَزْدَادُ كَزِيَادَتِهِمْ، وَلَا يَكْثُرُ كَكَثْرَتِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ مُدَّةً عَلَى مَا نَرَى مِنْ نَمَائِهِمْ وَزِيَادَتِهِمْ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ سَيَمْلَئُونَ الْأَرْضَ، وَيُجْلُونَ أَهْلَهَا عَنْهَا وَيَظْهَرُونَ عَلَيْهَا فَيُفْسِدُونَ فِيهَا، وَلَيْسَتْ تَمُرُّ بِنَا سَنَةٌ مُنْذُ جَاوَرْنَاهُمْ إِلَّا وَنَحْنُ نَتَوَقَّعُهُمْ، وَنَنْتَظِرُ أَنْ يَطْلُعَ عَلَيْنَا أَوَائِلُهُمْ مِنْ بَيْنِ هَذَيْنِ الْجَبَلَيْنِ {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} أَعَدُّوا إِلَيَّ الصُّخُورَ وَالْحَدِيدَ وَالنُّحَاسَ حَتَّى أَرْتَادَ بِلَادَهُمْ، وَأَعْلَمَ عِلْمَهُمْ، وَأَقِيسَ مَا بَيْنَ جُبْلَيْهِمْ. ثُمَّ انْطَلَقَ يَؤُمُّهُمْ حَتَّى دَفَعَ إِلَيْهِمْ وَتَوَسَّطَ بِلَادَهُمْ، فَوَجَدَهُمْ عَلَى مِقْدَارٍ وَاحِدٍ، ذَكَرَهُمْ وَأُنْثَاهُمْ، مَبْلَغُ طُولِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ مِثْلُ نِصْفِ الرَّجُلِ الْمَرْبُوعِ مِنَّا، لَهُمْ مَخَالِبُ فِي مَوْضِعِ الْأَظْفَارِ مِنْ أَيْدِينَا، وَأَضْرَاسٌ وَأَنْيَابٌ كَأَضْرَاسِ السِّبَاعِ وَأَنْيَابِهَا. وَأَحْنَاكٌ كَأَحْنَاكِ الْإِبِلِ، قُوَّةً تَسْمَعُ لَهَا حَرَكَةً إِذَا أَكَلُوا كَحَرَكَةِ الْجَرَّةِ مِنَ الْإِبِلِ، أَوْ كَقَضْمِ الْفَحْلِ الْمُسِنِّ، أَوِ الْفَرَسِ الْقَوِيِّ، وَهُمْ هُلْبٌ، عَلَيْهِمْ مِنَ الشِّعْرِ فِي أَجْسَادِهِمْ مَا يُوَارِيهِمْ، وَمَا يَتَّقُونَ بِهِ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ إِذَا أَصَابَهُمْ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أُذُنَانِ عَظِيمَتَانِ: إِحْدَاهُمَا وَبَرِةُ ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا، وَالْأُخْرَى زَغِبَةُ ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا، تَسَعَانِهِ إِذَا لَبِسَهُمَا، يَلْتَحِفُ إِحْدَاهُمَا، وَيَفْتَرِشُ الْأُخْرَى، وَيُصَيِّفُ فِي إِحْدَاهُمَا، وَيُشَتِّي فِي الْأُخْرَى، وَلَيْسَ مِنْهُمْ ذَكَرٌ وَلَا أُنْثَى إِلَّا وَقَدْ عَرَفَ أَجْلَهُ الذى يَمُوتُ فِيهِ، وَمُنْقَطَعَ عُمْرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ مَيِّتٌ مِنْ ذُكُورِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مَنْ صُلْبِهِ أَلْفُ وَلَدٍ، وَلَا تَمُوتُ الْأُنْثَى حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ رَحِمِهَا أَلْفُ وَلَدٍ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ، وَهُمْ يُرْزَقُونَ التِّنِّينَ أَيَّامَ الرَّبِيعِ، وَيَسْتَمْطِرُونَهُ إِذَا تَحَيَّنُوهُ كَمَا نَسْتَمْطِرُ الْغَيْثَ لِحِينِهِ، فَيَقْذِفُونَ مِنْهُ كُلَّ سَنَةٍ بِوَاحِدٍ، فَيَأْكُلُونَهُ عَامَهُمْ كُلَّهُ إِلَى مَثَلِهِ مِنَ الْعَامِ الْقَابِلِ، فَيُغْنِيهِمْ عَلَى كَثْرَتِهِمْ وَنَمَائِهِمْ، فَإِذَا أُمْطِرُوا وَأَخْصَبُوا وَعَاشُوا وَسَمِنُوا، وَرُؤِيَ أَثَرُهُ عَلَيْهِمْ، فَدَرَتْ عَلَيْهِمُ الْإِنَاثُ، وَشَبِقَتْ مِنْهُمُ الرِّجَالُ الذُّكُورُ، وَإِذَا أَخْطَأَهُمْ هَزَلُوا وَأَجْدَبُوا، وَجَفَرَتِ الذُّكُورُ، وَحَالَتِ الْإِنَاثُ، وَتَبَيَّنَ أَثَرُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ يَتَدَاعُونَ تَدَاعِيَ الْحَمَامِ، وَيَعْوُونُ عُوَاءَ الْكِلَابِ، وَيَتَسَافَدُونَ حَيْثُ الْتَقَوْا تَسَافُدَ الْبَهَائِمِ. فَلَمَّا عَايَنَ ذَلِكَ مِنْهُمْ ذُو الْقَرْنَيْنِ انْصَرَفَ إِلَى مَا بَيْنَ الصَّدَفينِ، فَقَاسٍ مَا بَيْنَهُمَا وَهُوَ فِي مُنْقَطَعِ أَرْضِ التُّرْكِ مِمَّا يَلِي مَشْرِقَ الشَّمْسِ، فَوَجَدَ بُعْدَ مَا بَيْنَهُمَا مِائَةَ فَرْسَخٍ؛ فَلَمَّا أَنْشَأَ فِي عَمَلِهِ، حَفَرَ لَهُ أَسَاسًا حَتَّى بَلَغَ الْمَاءَ، ثُمَّ جَعَلَ عَرْضَهُ خَمْسِينَ فَرْسَخًا، وَجَعَلَ حَشْوَهُ الصُّخُورَ، وَطِينَهُ النُّحَاسَ، يُذَابُ ثُمَّ يُصَبُّ عَلَيْهِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ عِرْقٌ مِنْ جَبَلٍ تَحْتَ الْأَرْضِ، ثُمَّ عَلَّاهُ وَشَرَّفَهُ بِزُبَرِ الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ الْمُذَابِ، وَجَعَلَ خِلَالَهُ عِرْقًا مِنْ نُحَاسٍ أَصْفَرَ، فَصَارَ كَأَنَّهُ بُرْدٌ مُحَبَّرٌ مِنْ صُفْرَةِ النُّحَاسِ وَحُمْرَتِهِ وَسَوَادِ الْحَدِيدِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ وَأَحْكَمَهُ، انْطَلَقَ عَامِدًا إِلَى جَمَاعَةِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، فَبَيْنَا هُوَ يَسِيرُ، دَفَعَ إِلَى أُمَّةٍ صَالِحَةٍ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ، فَوَجَدَ أُمَّةً مُقْسِطَةً مُقْتَصِدَةً، يُقْسِمُونَ بِالسَّوِيَّةِ، وَيَحْكُمُونَ بِالْعَدْلِ، وَيَتَآسَوْنَ وَيَتَرَاحَمُونَ، حَالُهُمْ وَاحِدَةٌ، وَكَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةٌ، وَأَخْلَاقُهُمْ مُشْتَبِهَةٌ، وَطَرِيقَتُهُمْ مُسْتَقِيمَةٌ، وَقُلُوبُهُمْ مُتَأَلِّفَةٌ، وَسِيرَتُهُمْ حَسَنَةٌ، وَقُبُورُهُمْ بِأَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَى بُيُوتِهِمْ أَبْوَابٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ أُمَرَاءُ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمْ قُضَاةٌ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمْ أَغْنِيَاءُ، وَلَا مُلُوكٌ، وَلَا أَشْرَافٌ، وَلَا يَتَفَاوَتُونَ، وَلَا يَتَفَاضَلُونَ، وَلَا يَخْتَلِفُونَ، وَلَا يَتَنَازَعُونَ، وَلَا يَسْتَبُّونَ، وَلَا يَقْتَتِلُونَ، وَلَا يَقْحَطُونَ، وَلَا يَحْرِدُونَ، وَلَا تُصِيبُهُمُ الْآفَاتُ الَّتِي تُصِيبُ النَّاسَ، وَهُمْ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْمَارًا، وَلَيْسَ فِيهِمْ مِسْكِينٌ، وَلَا فَقِيرٌ، وَلَا فَظٌّ، وَلَا غَلِيظٌ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ ذُو الْقَرْنَيْنِ مِنْ أَمْرِهِمْ، عَجِبَ مِنْهُ! وَقَالَ: أَخْبِرُونِي، أَيُّهَا الْقَوْمُ خَبَرَكُمْ، فَإِنِّي قَدْ أَحْصَيْتُ الْأَرْضَ كُلَّهَا بَرَّهَا وَبَحْرَهَا، وَشَرْقَهَا وَغَرْبَهَا، وَنُورَهَا وَظُلْمَتَهَا، فَلَمْ أَجِدْ مِثْلَكُمْ، فَأَخْبِرُونِي خَبَرَكُمْ؛ قَالُوا: نَعِمَ، فَسَلْنَا عَمَّا تُرِيدُ، قَالَ: أَخْبِرُونِي، مَا بَالُ قُبُورِ مَوْتَاكُمْ عَلَى أَبْوَابِ بُيُوتِكُمْ؟ قَالُوا: عَمْدًا فَعَلْنَا ذَلِكَ لِئَلَّا نَنْسَى الْمَوْتَ، وَلَا يَخْرُجُ ذِكْرُهُ مِنْ قُلُوبِنَا، قَالَ: فَمَا بَالِ بُيُوتِكُمْ لَيْسَ عَلَيْهَا أَبْوَابٌ؟ قَالُوا: لَيْسَ فِينَا مُتَّهَمٌ، وَلَيْسَ مِنَّا إِلَّا أَمِينٌ مُؤْتَمَنٌ؛ قَالَ: فَمَا لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ؟ قَالُوا: لَا نَتَظَالَمُ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَيْسَ فِيكُمْ حُكَّامٌ؟ قَالُوا: لَا نَخْتَصِمُ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَيْسَ فِيكُمْ أَغْنِيَاءُ؟ قَالُوا: لَا نَتَكَاثَرُ؛ قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَيْسَ فِيكُمْ مُلُوكٌ؟ قَالُوا: لَا نَتَكَابَرُ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَا تَتَنَازَعُونَ وَلَا تَخْتَلِفُونَ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ أُلْفَةِ قُلُوبِنَا وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِنَا؛ قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَا تَسْتَبُّونَ وَلَا تَقْتَتِلُونَ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ أَنَّا غَلَبْنَا طَبَائِعَنَا بِالْعَزْمِ، وَسُسْنَا أَنْفُسَنَا بِالْأَحْلَامِ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ كَلِمَتُكُمْ وَاحِدَةٌ، وَطَرِيقَتُكُمْ مُسْتَقِيمَةٌ مُسْتَوِيَةٌ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ أَنَا لَا نَتَكَاذَبُ، وَلَا نَتَخَادَعُ، وَلَا يَغْتَابُ بَعْضُنَا بَعْضًا؛ قَالَ: فَأَخْبِرُونِي مِنْ أَيْنَ تَشَابَهَتْ قُلُوبُكُمْ، وَاعْتَدَلَتْ سِيرَتُكُمْ؟ قَالُوا: صَحَّتْ صُدُورُنَا، فَنُـزِعَ بِذَلِكَ الْغِلُّ وَالْحَسَدُ مِنْ قُلُوبِنَا؛ قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَيْسَ فِيكُمْ مِسْكِينٌ وَلَا فَقِيرٌ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ أَنَّا نَقْتَسِمُ بِالسَّوِيَّةِ؛ قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَيْسَ فِيكُمْ فَظٌّ وَلَا غَلِيظٌ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ الذُّلِّ وَالتَّوَاضُعِ؛ قَالَ: فَمَا جَعْلُكُمْ أَطْوَلَ النَّاسِ أَعْمَارًا؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ أَنَّا نَتَعَاطَى الْحَقَّ وَنَحْكُمُ بِالْعَدْلِ؛ قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَا تَقْحَطُونَ؟ قَالُوا: لَا نَغْفُلُ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَا تَحْرِدُونَ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ أَنَّا وَطَّأْنَا أَنْفُسَنَا لِلْبَلَاءِ مُنْذُ كُنَّا، وَأَحْبَبْنَاهُ وَحَرَصْنَا عَلَيْهِ، فَعَرِيْنَا مِنْهُ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَا تُصِيبُكُمُ الْآفَاتُ كَمَا تُصِيبُ النَّاسَ؟ قَالُوا: لَا نَتَوَكَّلُ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ، وَلَا نَعْمَلُ بِالْأَنْوَاءِ وَالنُّجُومِ، قَالَ: حَدِّثُونِي أَهَكَذَا وَجَدْتُمْ آبَاءَكُمْ يَفْعَلُونَ؟ قَالُوا: نَعَمْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا يَرْحَمُونَ مَسَاكِينَهُمْ، وَيُوَاسُونَ فُقَرَاءَهُمْ، وَيَعْفُونَ عَمَّنْ ظَلَمَهُمْ، وَيُحْسِنُونَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِمْ، وَيَحْلُمُونَ عَمَّنْ جَهِلَ عَلَيْهِمْ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ سَبُّهُمْ، وَيَصِلُونَ أَرْحَامَهُمْ، وَيُؤَدُّونَ آمَانَاتِهِمْ، وَيَحْفَظُونَ وَقْتَهُمْ لِصَلَاتِهِمْ، وَيُوفُونَ بِعُهُودِهِمْ، وَيَصْدُقُونَ فِي مَوَاعِيدِهِمْ، وَلَا يَرْغَبُونَ عَنْ أَكْفَائِهِمْ، وَلَا يَسْتَنْكِفُونَ عَنْ أَقَارِبِهِمْ، فَأَصْلَحَ اللَّهُ لَهُمْ بِذَلِكَ أَمْرَهُمْ، وَحِفْظَهُمْ مَا كَانُوا أَحْيَاءً، وَكَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَحْفَظَهُمْ فِي تَرِكَتِهِمْ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ يَحْفُرُونَ السَّدَّ كُلَ يَوْمٍ، حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمُ ارْجِعُوا فَتَحْفُرُونَهُ غَدًا، فَيُعِيدُهُ اللَّهُ وَهُوَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ تَرَكُوهُ، حَتَّى إِذَا جَاءَ الْوَقْتُ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَيَحْفُرُونَهُ وَيَخْرُجُونَ عَلَى النَّاسِ، فَيُنْشِّفُونَ الْمِيَاهَ، وَيَتَحَصَّنُ النَّاسُ فِي حُصُونِهِمْ، فَيَرْمُونَ بِسِهَامِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ، فَيَرْجِعُ فِيهَا كَهَيْئَةِ الدِّمَاءِ، فَيَقُولُونَ: قَهَرْنَا أَهْلَ الْأَرْضِ، وَعَلَوْنَا أَهْلَ السَّمَاءِ، فَيَبْعَثُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَغَفًا فِي أقْفَائِهِمْ فَتَقْتُلُهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ دَوَابَّ الْأَرْضِ لَتَسْمَنُ وَتَشْكُرُ مِنْ لُحُومِهِم». حَدَّثَنَا ابْنُ حَمِيدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ ثُمَّ الظُّفْرِيِ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ أَخِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخَدْرِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يُفْتَحُ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ فَيَخْرُجُونَ عَلَى النَّاسِ كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَهُمْ مِنْ كُلِ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} فَيَغْشَوْنَ الْأَرْضَ، وَيَنْحَازُ الْمُسْلِمُونَ عَنْهُمْ إِلَى مَدَائِنِهمْ وَحُصُونِهِمْ، وَيَضُمَّونَ إِلَيْهِمْ مَوَاشِيهِمْ، فَيَشْرَبُونَ مِيَاهَ الْأَرْضِ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَمُرُ بِالنَّهْرِ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهِ، حَتَّى يَتْرُكُوهُ يَابِسًا، حَتَّى إِنَّ مَنْ بَعْدَهُمْ لَيَمُرُ بِذَلِكَ النَّهْرِ، فَيَقُولُ: لَقَدْ كَانَ هَاهُنَا مَاءٌ مَرَّةً، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ إِلَّا انْحَازَ إِلَى حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ، قَالَ قَائِلُهُمْ: هَؤْلَاءِ أَهْلُ الْأَرْضِ قَدْ فَرَغْنَا مِنْهُمْ، بَقِيَ أَهْلُ السَّمَاءِ، قَالَ: ثُمَّ يَهُزُّ أَحَدُهُمْ حَرْبَتَهُ، ثُمَّ يَرْمِي بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَتَرْجِعُ إِلَيْهِ مُخَضِّبَةً دَمًا لِلْبَلَاءِ وَالْفِتْنَةِ، فَبَيْنَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ، بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ دُودًا فِي أَعْنَاقِهِمْ كَالنَّغَفِ، فَتَخْرُجُ فِي أَعْنَاقِهِمْ فَيُصْبِحُونَ مَوْتَى، لَا يُسْمَعُ لَهُمْ حِسٌّ، فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: أَلَا رَجُلٌ يَشْرِي لَنَا نَفْسَهُ، فَيَنْظُرُ مَا فَعَلَ الْعَدُوُّ، قَالَ: فَيَتَجَرَّدُ رَجُلٌ مِنْهُمْ لِذَلِكَ مُحْتَسِبًا لِنَفْسِهِ، قَدْ وَطَّنَهَا عَلَى أَنَّهُ مَقْتُولٌ، فَيَنْـزِلُ فَيَجِدُهُمْ مَوْتَى، بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَيُنَادِي: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أَلَّا أَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ كَفَاكُمْ عَدُوَّكُمْ، فَيَخْرُجُونَ مِنْ مَدَائِنِهِمْ وَحُصُونِهِمْ، وَيُسَرِّحُونَ مَوَاشِيَهُمْ، فَمَا يَكُونُ لَهَا رَعْيٌ إِلَّا لُحُومُهُمْ، فَتَشْكُرُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا شَكَرَتْ عَنْ شَيْءٍ مِنَ النَّبَاتِ أَصَابَتْ قَط». حَدَّثَنِي بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ وَشُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ: أَنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ طُولُهُمْ كَطُولِ الْأُرْزِ، وَصِنْفٌ طُولُهُ وَعَرْضُهُ سَوَاءٌ، وَصِنْفٌ يَفْتَرِشُ أَحَدُهُمْ أُذُنَهُ وَيَلْتَحِفُ بِالْأُخْرَى فَتُغَطِّي سَائِرَ جَسَدِهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنَى أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} قَالَ: كَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخَدْرِيُّ: يَقُولُ: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَمُوتُ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى يُولَدَ لِصُلْبِهِ أَلْفُ رَجُل». قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَعْجَبُ مِنْ كَثْرَتِهِمْ وَيَقُولُ: لَا يَمُوتُ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَحَدٌ حَتَّى يُولَدَ لَهُ أَلْفُ رَجُلٍ مِنْ صُلْبِهِ. فَالْخَبَرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ فِي قِصَّةِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّالَّذِينَ قَالُوا لِذِي الْقَرْنَيْنِ {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} إِنَّمَا أَعْلَمُوهُ خَوْفَهُمْ مَا يَحْدُثُ مِنْهُمْ مِنَ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، لَا أَنَّهُمْ شَكَوْا مِنْهُمْ فَسَادًا كَانَ مِنْهُمْ فِيهِمْ أَوْ فِي غَيْرِهِمْ. وَالْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ سَيَكُونُ مِنْهُمُ الْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهَا أَنَّهُمْ قَدْ كَانَ مِنْهُمْ قَبْلَ إِحْدَاثِ ذِي الْقَرْنَيْنِ السَّدَّ الَّذِي أَحْدَثَهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ دُونَهُمْ مِنَ النَّاسِ فِي النَّاسِ غَيْرِهِمْ إِفْسَادٌ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ بِالَّذِي بَيَّنَّا، فَالصَّحِيحُ مِنْ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ سَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ. وَقَوْلُهُ {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا} اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا} كَأَنَّهُمْ نَحَوْا بِهِ نَحْوَ الْمَصْدَرِ مِنْ خَرْجٍ لِلرَّأْسِ، وَذَلِكَ جُعْلُهُ، وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرَاجًا" بِالْأَلِفِ، وَكَأَنَّهُمْ نَحَوْا بِهِ نَحْوَ الِاسْمِ. وَعَنَوْا بِهِ أُجْرَةً عَلَى بِنَائِكَ لَنَا سَدًّا بَيْنَنَا وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ. وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا بِالصَّوَابِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ " فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرَاجًا" بِالْأَلِفِ، لِأَنَّ الْقَوْمَ فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُمْ، إِنَّمَا عَرَضُوا عَلَى ذِي الْقَرْنَيْنِ أَنْ يُعْطُوهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى بِنَاءِ السَّدِّ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} وَلَمْ يَعْرِضُوا عَلَيْهِ جِزْيَةَ رُءُوسِهِمْ. وَالْخَرَاجُ عِنْدَ الْعَرَبِ: هُوَ الْغَلَّةُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ. ذِكْرُ مِنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ "فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرَاجًا " قَالَ: أَجْرًا {عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا}. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ "فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرَاجًا" قَالَ: أَجْرًا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَا أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ " فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرَاجًا" قَالَ: أَجْرًا. وَقَوْلُهُ: {عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} يَقُولُ: قَالُوا لَهُ: هَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرَاجًا حَتَّى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ حَاجِزًا يَحْجِزُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَيَمْنَعُهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْنَا. وَهُوَ السَّدُّ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ: الَّذِي مَكَّنَنِي فِي عَمَلٍ مَا سَأَلْتُمُونِي مِنَ السَّدِّ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ رَبِّي، وَوَطَّأَهُ لِي، وَقَوَّانِي عَلَيْهِ، خَيْرٌ مِنْ جُعْلِكُمْ، وَالْأُجْرَةِ الَّتِي تَعْرِضُونَهَا عَلَيَّ لِبِنَاءِ ذَلِكَ، وَأَكْثَرُ وَأَطْيَبُ، وَلَكِنْ أَعِينُونِي مِنْكُمْ بِقُوَّةٍ، أَعِينُونِي بِفَعَلَةٍ وَصُنَّاعٍ يُحْسِنُونَ الْبِنَاءَ وَالْعَمَلَ. كَمَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} قَالَ: بِرِجَالٍ {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} وَقَالَ مَا مَكَّنِّي، فَأَدْغَمَ إِحْدَى النُّونَيْنِ فِي الْأُخْرَى، وَإِنَّمَا هُوَ مَا مَكَّنَنِي فِيهِ.وَقَوْلُهُ: {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} يَقُولُ: أَجْعَلُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ رَدْمًا. وَالرَّدْمُ: حَاجِزُ الْحَائِطِ وَالسَّدِّ، إِلَّا أَنَّهُ أَمْنَعُ مِنْهُ وَأَشُدُّ، يُقَالُ مِنْهُ: قَدْ رَدَمَ فُلَانٌ مَوْضِعَ كَذَا يَرْدِمُهُ رَدْمًا وَرُدَامًا وَيُقَالُ أَيْضًا: رَدَّمَ ثَوْبَهُ يُرَدِّمُهُ، وَهُوَ ثَوْبٌ مُرَدَّمٌ: إِذَا كَانَ كَثِيرَ الرِّقَاعِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ: هَـلْ غَـادَرَ الشُّـعَرَاءُ مِـنْ مُـتَرَدَّمِ *** أَمْ هَـلْ عَـرَفْتَ الـدَّارَ بَعْـدَ تَـوَهُّمِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} قَالَ: هُوَ كَأَشَدِّ الْحِجَابِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ رَأَيْتُ سَدَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، قَالَ انْعَتْهُ لِي قَالَ: كَأَنَّهُ الْبَرْدُ الْمُحَبَّرُ، طَرِيقَةٌ سَوْدَاءُ، وَطَرِيقَةٌ حَمْرَاءُ، قَالَ: قَدْ رَأَيْتَه».
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا}. يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ: قَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ لِلَّذِينِ سَأَلُوهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ سَدًّا (آتُونِي) أَيْ جِيئُونِي بِزُبَرِ الْحَدِيدِ، وَهِيَ جَمْعُ زُبْرَةٍ، وَالزُّبْرَةُ: الْقِطْعَةُ مِنَ الْحَدِيدِ. كَمَا حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {زُبَرَ الْحَدِيدِ} يَقُولُ: قِطَعُ الْحَدِيدِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} قَالَ: قِطَعُ الْحَدِيدِ. حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَيْفٍ، قَالَ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، قَوْلُهُ: {زُبَرَ الْحَدِيدِ} قَالَ: قِطَعُ الْحَدِيدِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ الْأَسَدَيُّ، قَالَ: ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي يَحْيَى عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} قَالَ: قِطَعُ الْحَدِيدِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} أَيْ فِلَقُ الْحَدِيدِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} قَالَ: قِطَعُ الْحَدِيدِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} قَالَ: قِطَعُ الْحَدِيدِ. وَقَوْلُهُ {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ: فَآتَوْهُ زُبَرَ الْحَدِيدِ، فَجَعَلَهَا بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ بِمَا جَعَلَ بَيْنَهُمَا مِنْ زُبَرِ الْحَدِيدِ، وَيُقَالُ: سَوَّى. وَالصَّدَفَانِ: مَا بَيْنَ نَاحِيَتِي الْجَبَلَيْنِ وَرُءُوسِهِمَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزُ: قـدْ أخَـذَتْ مـا بَيْنَ عَرْضِ الصَّدَفَيْنِ *** نَاحِيَتَيْهَـا وَأَعَـالِيَ الـرُّكْنَيْنِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} يَقُولُ: بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} قَالَ: هُوَ سَدٌّ كَانَ بَيْنَ صَدَفَيْنِ، وَالصَّدَفَانِ: الْجَبَلَانِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى "ح"، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: (الصَّدَفَيْنِ) رُءُوسُ الْجَبَلَيْنِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلُهُ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: ثَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} يَعْنِي الْجَبَلَيْنِ، وَهُمَا مِنْ قَبْلِ أَرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} وَهُمَا الْجَبَلَانِ. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا هُشَيْمٍ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَرَأَهَا {بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} مَنْصُوبَةُ الصَّادِّ وَالدَّالِّ، وَقَالَ: بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، وَلِلْعَرَبِ فِي الصَّدَفَيْنِ: لُغَاتٌ ثَلَاثٌ، وَقَدْ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُرَّاءِ: الْفَتْحُ فِي الصَّادِ وَالدَّالِ، وَذَلِكَ قِرَاءَةُ عَامَّةِ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ، وَالضَّمُّ فِيهِمَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَالضَّمُّ فِي الصَّادِ وَتَسْكِينُ الدَّالِّ، وَذَلِكَ قِرَاءَةُ بَعْضِ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْكُوفَةِ، وَالْفَتْحُ فِي الصَّادِ وَالدَّالِ أَشْهَرُ هَذِهِ اللُّغَاتُ، وَالْقِرَاءَةُ بِهَا أَعْجَبُ إِلَيَّ، وَإِنْ كُنْتُ مُسْتَجِيزًا الْقِرَاءَةَ بِجَمِيعِهَا، لِاتِّفَاقِ مَعَانِيهَا. وَإِنَّمَا اخْتَرْتُ الْفَتْحَ فِيهِمَا لِمَا ذَكَرْتُ مِنَ الْعِلَّةِ. وَقَوْلُهُ {قَالَ انْفُخُوا} يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ، قَالَ لِلْفَعَلَةِ: انْفُخُوا النَّارَ عَلَى هَذِهِ الزُّبَرِ مِنَ الْحَدِيدِ. وَقَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا} وَفِي الْكَلَامِ مَتْرُوكٌ، وَهُوَ فَنَفَخُوا، حَتَّى إِذَا جَعَلَ مَا بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ مِنَ الْحَدِيدِ نَارًا {قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} فَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ {قَالَ آتُونِي} بِمَدِّ الْأَلِفِ مِنْ (آتُونِي) بِمَعْنَى: أَعْطَوْنِي قِطْرًا أُفْرِغْ عَلَيْهِ. وَقَرَأَهُ بَعْضُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ، قَالَ (ائْتُونِي) بِوَصْلِ الْأَلِفِ، بِمَعْنَى: جِيئُونِي قِطْرًا أُفْرِغْ عَلَيْهِ، كَمَا يُقَالُ: أَخَذْتُ الْخِطَامَ، وَأَخَذْتُ بِالْخِطَامِ، وَجِئْتُكَ زَيْدًا، وَجِئْتُكَ بِزَيْدٍ. وَقَدْ يَتَوَجَّهُ مَعْنَى ذَلِكَ إِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ إِلَى مَعْنَى أَعْطَوْنِي، فَيَكُونُ كَأَنَّ قَارِئَهُ أَرَادَ مَدَّ الْأَلِفِ مِنْ آتَوْنِي، فَتَرَكَ الْهَمْزَةَ الْأُولَى مَنْ آتَوْنِي، وَإِذَا سَقَطَتِ الْأُولَى هَمَزَ الثَّانِيَةَ. وَقَوْلُهُ: {أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} يَقُولُ: أَصُبُّ عَلَيْهِ قِطْرًا، وَالْقِطْرُ: النُّحَاسُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} قَالَ: الْقِطْرُ: النُّحَاسُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلُهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُقَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: ثَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ {أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} يَعْنِي النُّحَاسَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} أَيِ النُّحَاسَ لِيُلْزِمَهُ بِهِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ {أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} قَالَ: نُحَاسًا. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ: الْقِطْرُ: الْحَدِيدُ الْمُذَابُ، وَيَسْتَشْهِدُ لِقَوْلِهِ ذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: حُسَـامًا كَلَـوْنِ الْمِلْـحِ صَـافٍ حَدِيدُهُ *** جُـزَارًا مِـنْ أقْطـارِ الْحَـدِيدِ الْمُنَعَّتِ وَقَوْلُهُ: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ: فَمَا اسْطَاعَ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ أَنْ يَعْلُوا الرَّدْمَ الَّذِي جَعَلَهُ ذُو الْقَرْنَيْنِ حَاجِزًا بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ مَنْ دُونَهُمْ مِنَ النَّاسِ، فَيَصِيرُوا فَوْقَهُ وَيَنْـزِلُوا مِنْهُ إِلَى النَّاسِ. يُقَالُ مِنْهُ: ظَهَرَ فُلَانٌ فَوْقَ الْبَيْتِ: إِذَا عَلَاهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّاسِ: ظَهَرَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ: إِذَا قَهَرَهُ وَعَلَاهُ {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} يَقُولُ: وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَنْقُبُوهُ مِنْ أَسْفَلِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} مِنْ قَوْلِهِ {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} أَيْ مِنْ أَسْفَلِهِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} قَالَ: مَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يَنْـزَعُوهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَا أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} قَالَ: أَنْ يَرْتَقُوهُ {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا}. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَى حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، {فَمَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} قَالَ: أَنْ يَرْتَقُوهُ {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا}. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} قَالَ: يَعْلُوهُ {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} أَيْ يَنْقُبُوهُ مِنْ أَسْفَلِهِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي وَجْهِ حَذْفِ التَّاءِ مِنْ قَوْلِهِ: {فَمَا اسْطَاعُوا} فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةَ: فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّ لُغَةَ الْعَرَبِ أَنْ تَقُولَ: اسْطَاعَ يَسْطِيعُ، يُرِيدُونَ بِهَا: اسْتَطَاعَ يَسْتَطِيعُ، وَلَكِنْ حَذَفُوا التَّاءَ إِذَا جُمِعَتْ مَعَ الطَّاءِ وَمَخْرَجُهُمَا وَاحِدٌ. قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اسْتَاعَ، فَحَذَفَ الطَّاءَ لِذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَسْطَاعَ يَسْطِيعُ، فَجَعَلَهَا مِنَ الْقَطْعِ كَأَنَّهَا أَطَاعَ يُطِيعُ، فَجَعَلَ السِّينَ عِوَضًا مِنْ إِسْكَانِ الْوَاوِ. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْكُوفَةِ: هَذَا حَرْفٌ اسْتُعْمِلَ فَكَثُرَ حَتَّى حُذِفَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا}. يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ: فَلَمَّا رَأَى ذُو الْقَرْنَيْنِ أَنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَظْهَرُوا مَا بَنَى مِنَ الرَّدْمِ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى نَقْبِهِ، قَالَ: هَذَا الَّذِي بَنَيْتُهُ وَسَوَّيْتُهُ حَاجِزًا بَيْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَمَنْ دُونِ الرَّدْمِ رَحْمَةً مِنْ رَبِّي رَحِمَ بِهَا مَنْ دُونَ الرَّدْمِ مِنَ النَّاسِ، فَأَعَانَنِي بِرَحْمَتِهِ لَهُمْ حَتَّى بَنَيْتُهُ وَسَوَّيْتُهُ لِيَكُفَّ بِذَلِكَ غَائِلَةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَنْهُمْ. وَقَوْلُهُ {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ} يَقُولُ: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي الَّذِي جَعَلَهُ مِيقَاتًا لِظُهُورِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَخُرُوجِهَا مِنْ وَرَاءِ هَذَا الرَّدْمِ لَهُمْ. جَعَلَهُ دَكَّاءَ، يَقُولُ: سِوَاهُ بِالْأَرْضِ، فَأَلْزَقَهُ بِهَا، مِنْ قَوْلِهِمْ: نَاقَةٌ دَكَّاءُ: مُسْتَوِيَةُ الظَّهْرِ لَا سَنَامَ لَهَا. وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ: جَعَلَهُ مَدْكُوكًا، فَقِيلَ: دَكَّاءُ. وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ} قَالَ: لَا أَدْرِي الْجَبَلَيْنِ يَعْنِي بِهِ، أَوْ مَا بَيْنَهُمَا. وَذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ كَذَلِكَ بَعْدَ قَتْلِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الدَّجَّالَ. ذِكْرُ الْخَبَرِ بِذَلِكَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، قَالَ: ثَنَا هُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْعَوَّامُ، عَنْ جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ، عَنْ مُؤْثِرٍ، وَهُوَ ابْنُ عَفَازَةَ الْعَبْدِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «لَقِيتُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى فَتَذَاكَرُوا أَمْرَ السَّاعَةِ، وَرَدُّوا الْأَمْرَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَا عِلْمَ لِي بِهَا، فَرَدُّوا الْأَمْرَ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ مُوسَى: لَا عِلْمَ لِي بِهَا، فَرَدُّوا الْأَمْرَ إِلَى عِيسَى؛ قَالَ عِيسَى: أَمَّا قِيَامُ السَّاعَةِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَلَكِنَّ رَبِّي قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ بِمَا هُوَ كَائِنٌ دُونَ وَقْتِهَا، عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّ الدَّجَّالَ خَارِجٌ، وَأَنَّهُ مُهْبِطِي إِلَيْهِ، فَذَكَرَ أَنَّ مَعَهُ قَصَبَتَيْنِ، فَإِذَا رَآنِي أَهْلَكَهُ اللَّهُ، قَالَ: فَيَذُوبُ كَمَا يَذُوبُ الرَّصَاصُ، حَتَّى إِنَّ الْحَجَرَ وَالشَّجَرَ لَيَقُولُ: يَا مُسْلِمُ هَذَا كَافِرٌ فَاقْتُلْهُ، فَيُهْلِكُهُمُ اللَّهُ، وَيَرْجِعُ النَّاسُ إِلَى بِلَادِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ فَيَسْتَقْبِلُهُمْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ مِنْ كُلِ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، لَا يَأْتُونَ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا أَكَلُوهُ، وَلَا يَمُرُّونَ عَلَى مَاءٍ إِلَّا شَرِبُوهُ، فَيْرِجِعُ النَّاسُ إِلَيَّ، فَيَشْكُونَهُمُ، فَأَدْعُو اللَّهَ عَلَيْهِمْ فَيُمِيتُهُمْ حَتَّى تَجْوَى الْأَرْضُ مِنْ نَتْنِ رِيحِهِمْ، فَيَنْـزِلُ الْمَطَرُ، فَيَجُرُّ أَجْسَادَهُمْ، فَيُلْقِيهِمْ فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ يَنْسِفُ الْجِبَالَ حَتَّى تَكُونَ الْأَرْضُ كَالْأَدِيمِ، فَعَهِدَ إِلَيَّ رَبِّي أَنَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ السَّاعَةَ مِنْهُمُ كَالْحَامِلِ الْمُتِمِّ الَّتِي لَا يَدْرِي أَهْلُهَا مَتَّى تَفْجَؤُهُمْ بِوِلَادِهَا، لَيْلًا أَوْ نَهَارًا». حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: ثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ أُصْبُعِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ،، عَنْ مُؤْثِرِ بْنِ عَفَازَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: «لِمَا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْتَقَى هُوَ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. فَتُذَاكِرُوا أَمْرَ السَّاعَة». فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيَّ عَنْ هُشَيْمٍ، وَزَادَ فِيهِ: قَالَ الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ: فَوَجَدْتُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالَ (} فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) يَقُولُ: وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي الَّذِي وَعَدَ خَلْقَهُ فِي دَكِّ هَذَا الرَّدْمِ، وَخُرُوجِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ عَلَى النَّاسِ، وَعَيْثِهِمْ فِيهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وَعْدِهِ حَقًّا، لِأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ فَلَا يَقَعُ غَيْرُ مَا وَعَدَ أَنَّهُ كَائِنٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَتَرَكَنَا عِبَادنَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ وَعْدُنَا الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ، بِأَنَّا نَدُكُّ الْجِبَالَ وَنَنْسِفُهَا عَنِ الْأَرْضِ نَسْفًا، فَنَذَرَهَا قَاعًا صَفْصَفًا، بَعْضَهُمْ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ، يَقُولُ: يَخْتَلِطُ جِنُّهُمْ بِإِنْسِهِمْ. كَمَا ثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ، فِي قَوْلِهِ {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} قَالَ: إِذَا مَاجَ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ، قَالَ إِبْلِيسُ: فَأَنَا أَعْلَمُ لَكُمْ عِلْمَ هَذَا الْأَمْرِ، فَيَظْعَنُ إِلَى الْمَشْرِقِ، فَيَجِدُ الْمَلَائِكَةَ قَدْ قَطَعُوا الْأَرْضَ، ثُمَّ يَظْعَنُ إِلَى الْمَغْرِبِ، فَيَجِدُ الْمَلَائِكَةَ قَدْ قَطَعُوا الْأَرْضَ، ثُمَّ يَصْعَدُ يَمِينًا وَشِمَالًا إِلَى أَقْصَى الْأَرْضِ، فَيَجِدُ الْمَلَائِكَةَ قَطَعُوا الْأَرْضَ، فَيَقُولُ: مَا مِنْ مَحِيصٍ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ، إِذْ عَرَضَ لَهُ طَرِيقٌ كَالشِّرَاكِ، فَأَخَذَ عَلَيْهِ هُوَ وَذُرِّيَّتُهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَيْهِ، إِذْ هَجَمُوا عَلَى النَّارِ، فَأَخْرَجَ اللَّهُ خَازِنًا مَنْ خُزَّانِ النَّارِ، قَالَ: يَا إِبْلِيسُ أَلَمْ تَكُنْ لَكَ الْمَنْـزِلَةُ عِنْدَ رَبِّكَ، أَلَمْ تَكُنْ فِي الْجِنَانِ؟ فَيَقُولُ: لَيْسَ هَذَا يَوْمَ عِتَابٍ، لَوْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيَّ فَرِيضَةً لَعَبَدْتُهُ فِيهَا عِبَادَةً لَمْ يَعْبُدْهُ مِثْلَهَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ، فَيَقُولُ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْكَ فَرِيضَةً، فَيَقُولُ: مَا هِيَ؟ فَيَقُولُ: يَأْمُرُكَ أَنْ تَدْخُلَ النَّارَ، فَيَتَلَكَّأُ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ بِهِ وَبِذَرِّيَّتِهِ بِجَنَاحَيْهِ، فَيَقْذِفُهُمْ فِي النَّارِ، فَتَزْفِرُ النَّارُ زَفْرَةً فَلَا يَبْقَى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ إِلَّا جَثَى لِرُكْبَتَيْهِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} قَالَ: هَذَا أَوَّلُ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ نُفِخَ فِي الصُّورِ عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا،
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} قَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِيمَا مَضَى فِيالصُّورِ، وَمَا هُوَ، وَمَا عُنِيَ بِهِ. وَاخْتَرْنَا الصَّوَابَ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ الْمُغْنِيَةِ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، غَيْرَ أَنَّا نَذْكُرُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بَعْضَ مَا لَمْ نَذْكُرْ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنَ الْأَخْبَارِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: ثَنَا أَسْلَمُ، عَنْ بِشْرِ بْنِ شَغَافٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَهُ عَنِ الصُّورِ، قَالَ " قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيه». حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنِ الْعِجْلِيِّ، عَنْ بِشْرِ بْنِ شَغَافٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَارِثِ الْقَنْطَرِيُّ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، قَالَ: كُنْتُ فِي جِنَازَةِ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ فَلَقِيتُ مَالِكَ بْنَ مِغْوَلٍ، فَحَدَّثْنَا عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدريِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "«كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ وَحَنَى الْجَبَهَةَ، وَأَصْغَى بِالْأُذُنِ مَتَى يُؤْمَرُ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا، وَلَوِ اجْتَمَعَ أَهْلُ مِنًى مَا أَقَالُوا ذَلِكَ الْقَرْن»" كَذَا قَالَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَا أَقَلُّوا. حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: ثَنَا حَفْصٌ، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدريِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ، وَحَنَى ظَهْرَهُ وَجَحَظَ بِعَيْنَيْهِ، قَالُوا: مَا نَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: قُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ، تَوَكَّلْنَا عَلَى اللَّه». حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ مُطْرِّفٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ، وَحَنَى جَبْهَتَهُ يَسْتَمِعُ مَتَى يُؤْمَرُ فَيَنْفُخُ فِيهِ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَكَيْفَ نَقُولُ؟ قَالَ: تَقُولُونَ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، تَوَكَّلْنَا عَلَى اللَّه». حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَالْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، قَالَا ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنْ مُطَرَّفٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثَنَا شُعَيْبُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: ثَنَا خَالِدُ أَبُو الْعَلَاءِ، قَالَ: ثَنَا عَطِيَّةُ العوفيُّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخَدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَحَنَى الْجَبْهَةَ، وَأَصْغَى بِالْأُذُنِ مَتَى يُؤْمَرُ أَنْ يَنْفُخَ، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ مِنًى اجْتَمَعُوا عَلَى الْقَرْنِ عَلَى أَنْ يُقِلُّوهُ مِنَ الْأَرْضِ، مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ" قَالَ: فأُبِلسَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَقَّ عَلَيْهِمْ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا». حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ الْمَدَنِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ فُلَانٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمَّا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، خَلَقَ الصُّورَ، فَأَعْطَاهُ إِسْرَافِيلَ، فَهُوَ وَضَعَهُ عَلَى فِيهِ شَاخِصٌ بَصَرُهُ إِلَى الْعَرْشِ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الصُّورُ؟ قَالَ: قَرْنٌ، قَالَ: وَكَيْفَ هُوَ؟ قَالَ: قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فِيهِ ثَلَاثُ نَفَخَاتٍ: الْأُولَى: نَفْخَةُ الْفَزَعِ، وَالثَّانِيَةُ: نَفْخَةُ الصَّعْقِ، وَالثَّالِثَةُ: نَفْخَةُ الْقِيَامِ لِرَبِّ الْعَالَمِين». وَقَوْلُهُ {فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} يَقُولُ: فَجَمْعُنَا جَمِيعَ الْخَلْقِ حِينَئِذٍ لِمَوْقِفِ الْحِسَابِ جَمِيعًا. وَقَوْلُهُ {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} يَقُولُ: وَأَبْرَزْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَأَظْهَرْنَاهَا لِلْكَافِرِينَ بِاللَّهِ، حَتَّى يَرَوْهَا وَيُعَايِنُوهَا كَهَيْئَةِ السَّرَابِ، وَلَوْ جَعَلَ الْفِعْلَ لَهَا قِيلَ: أَعْرَضَتْ إِذَا اسْتَبَانَتْ. كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ: وَأَعْـرَضَتِ الْيَمامَـةُ واشْـمَخَرَّتْ *** كَأَسْـيَافٍ بِـأَيْدِي مُصْلِتِينَـا وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو الزَّعْرَاءِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: يَقُومُ الْخَلْقُ لِلَّهِ إِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ، قِيَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَتَمَثَّلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْخَلْقِ فَمَا يَلْقَاهُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلَائِقِ كَانَ يَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ شَيْئًا إِلَّا وَهُوَ مَرْفُوعٌ لَهُ يَتْبَعُهُ، قَالَ: فَيَلْقَى الْيَهُودُ فَيَقُولُ: مَنْ تَعْبُدُونَ؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: نَعْبُدُ عُزَيْرًا، قَالَ: فَيَقُولُ: هَلْ يَسُرُّكُمُ الْمَاءُ؟ فَيَقُولُونَ نَعَمْ، فَيُرِيهِمْ جَهَنَّمَ وَهِيَ كَهَيْئَةِ سَرَابٍ، ثُمَّ قَرَأَ {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} ثُمَّ يَلْقَى النَّصَارَى فَيَقُولُ: مَنْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: نَعْبُدُ الْمَسِيحَ، فَيَقُولُ: هَلْ يَسُرُّكُمُ الْمَاءُ، فَيَقُولُونَ نَعَمْ، قَالَ: فَيُرِيهِمْ جَهَنَّمَ وَهِيَ كَهَيْئِهِ السَّرَابِ، ثُمَّ كَذَلِكَ لِمَنْ كَانَ يَعْبُدُ مَنْ دُونِ اللَّهِ شَيْئًا، ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا}. يَقُولُ تَعَالَى: وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمئِذٍ لِلْكَافِرِينَالَّذِينَ كَانُوا لَا يَنْظُرُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ، فَيَتَفَكَّرُونَ فِيهَاوَلَا يَتَأَمَّلُونَ حُجَجَهُ، فَيَعْتَبِرُونَ بِهَا، فَيَتَذَكَّرُونَ وَيُنِيبُونَ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَيَنْقَادُونَ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا، يَقُولُ: وَكَانُوا لَا يُطِيقُونَ أَنْ يَسْمَعُوا ذِكْرَ اللَّهِ الَّذِي ذَكَّرَهُمْ بِهِ، وَبَيَانَهُ الَّذِي بَيَّنَهُ لَهُمْ فِي آيِ كِتَابِهِ، بِخِذْلَانِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، وَغَلَبَةِ الشَّقَاءِ عَلَيْهِمْ، وَشُغْلِهِمْ بِالْكُفْرِ بِاللَّهِ وَطَاعَةِ الشَّيْطَانِ، فَيَتَّعِظُونَ بِهِ، وَيَتَدَبَّرُونَ، فَيَعْرِفُونَ الْهُدَى مِنَ الضَّلَالَةِ، وَالْكُفْرَ مِنَ الْإِيمَانِ. وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ {لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} قَالَ: لَا يَعْقِلُونَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، ثَنْي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} قَالَ: لَا يَعْلَمُونَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي} الْآيَةَ، قَالَ: هَؤُلَاءِ أَهْلُ الْكُفْرِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُـزُلًا}. يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ: أَفَظَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ مِنْ عَبَدَةِ الْمَلَائِكَةِ وَالْمَسِيحِ، أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي الَّذِينَ عَبَدُوهُمْ مَنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ، يَقُولُ كَلَّا بَلْ هُمْ لَهُمْ أَعْدَاءُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، فِي قَوْلِهِ {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} قَالَ: يَعْنِي مَنْ يَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَالْمَلَائِكَةَ، وَهُمْ عِبَادُ اللَّهِ، وَلَمْ يَكُونُوا لِلْكُفَّارِ أَوْلِيَاءَ. وَبِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ، أَعْنِي بِكَسْرِ السِّينِ مِنْ (أَفَحَسِبَ) بِمَعْنَى الظَّنِّ قَرَأَتْ هَذَا الْحَرْفَ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُمْ قَرَءُوا ذَلِكَ {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} بِتَسْكِينِ السِّينِ، وَرَفْعِ الْحَرْفِ بَعْدَهَا، بِمَعْنَى: أَفَحَسْبُهُمْ ذَلِكَ: أَيْ أَفَكَفَاهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ مِنْ عِبَادَاتِي وَمُوَالَاتِي. كَمَا حُدِّثْتُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يُوسُفَ الْأَزْرَقِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُدَيْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} قَالَ: أَفَحَسَبَهُمْ ذَلِكَ، وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي نَقْرَؤُهَا هِيَ الْقِرَاءَةُ الَّتِي عَلَيْهَا قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ} بِكَسْرِ السِّينِ، بِمَعْنَى أَفَظَنَّ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهَا. وَقَوْلُهُ {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُـزُلًا} يَقُولُ: أَعْدَدْنَا لِمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ جَهَنَّمَ مَنْـزِلًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قُلْ) يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَبْغُونَ عَنَتَكَ وَيُجَادِلُونَكَ بِالْبَاطِلِ، وَيُحَاوِرُونَكَ بِالْمَسَائِلِ مَنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ: الْيَهُودُ، وَالنَّصَارَى {هَلْ نُنَبِّئُكُمْ} أَيُّهَا الْقَوْمُ {بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} يَعْنِي بِالَّذِينِ أَتْعَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي عَمَلٍ يَبْتَغُونَ بِهِ رِبْحًا وَفَضْلًا فَنَالُوا بِهِ عَطَبًا وَهَلَاكًا وَلَمْ يُدْرِكُوا طَلَبًا، كَالْمُشْتَرِي سِلْعَةً يَرْجُو بِهَا فَضْلًا وَرِبْحًا، فَخَابَ رَجَاؤُهُ. وَخَسِرَ بَيْعُهُ، وَوُكِسَ فِي الَّذِي رَجَا فَضْلَهُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِينَ عَنَوْا بِذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِهِ الرُّهْبَانُ وَالْقُسُوسُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا الْمُقْبُرِيُّ، قَالَ: ثَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي السَّكَنُ بْنُ أَبِي كَرِيمَةَ، أَنَّ أُمَّهُ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ أَبَا خَمِيصَةَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} هُمُ الرُّهْبَانُ الَّذِينَ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الصَّوَامِعِ. حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ حَيْوَةَ يَقُولُ: ثَنِي السَّكَنُ بْنُ أَبِي كَرِيمَةَ، عَنْ أُمِّهِ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} أَهُمُ الْحَرُورِيَّةِ؟ قَالَ: هُمْ أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ. حَدَّثَنَا فَضَالَةُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: قَالَ بَزِيعٌ: سَأَلَ رَجُلٌ الضَّحَّاكَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} قَالَ: هُمُ الْقِسِّيسُونَ وَالرُّهْبَانُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ سَعْدٌ: هُمْ أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ سَعْدٍ، قَالَ: قُلْتُ لِسَعْدٍ: يَا أَبَتِ {هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} أَهُمُ الْحَرُورِيَّةُ، فَقَالَ: لَا وَلَكِنَّهُمْ أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ، وَلَكِنَّ الْحَرُورِيَّةَ قَوْمٌ زَاغُوا فَأَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُمْ جَمِيعُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبِي عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أَهُمُ الْحَرُورِيَّةُ؟ قَالَ: لَا، هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. أَمَّا الْيَهُودُ فَكَذَّبُوا بِمُحَمَّدٍ. وَأَمَّا النَّصَارَى فَكَفَرُوا بِالْجَنَّةِ وَقَالُوا: لَيْسَ فِيهَا طَعَامٌ وَلَا شَرَابٌ، وَلَكِنَّ الْحَرُورِيَّةَ {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} فَكَانَ سَعْدٌ يُسَمِّيهِمُ الْفَاسِقِينَ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي حُرَّةَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ، فِي قَوْلِهِ {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي حَرْبِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ زَاذَانَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} قَالَ: هُمْ كَفَرَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَانَ أَوَائِلُهُمْ عَلَى حَقٍّ، فَأَشْرَكُوا بِرَبِّهِمْ، وَابْتَدَعُوا فِي دِينِهِمْ، الَّذِي يَجْتَهِدُونَ فِي الْبَاطِلِ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ، وَيَجْتَهِدُونَ فِي الضَّلَالَةِ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى هُدًى، فَضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، ثُمَّ رَفَعَ صَوْتَهُ، فَقَالَ: وَمَا أَهْلُ النَّارِ مِنْهُمْ بِبَعِيدٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُمُ الْخَوَارِجُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: سَأَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْكَوَّاءِ عَلِيًّا عَنْ قَوْلِهِ {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} قَالَ: أَنْتُمْ يَا أَهْلَ حَرُورَاءَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي صَخْرٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ الْبَجَلِيِّ، عَنْ أَبِي الصَّهْبَاءِ الْبَكْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّ ابْنَ الْكَوَّاءِ سَأَلَهُ، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} فَقَالَ عَلَيٌّ: أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: قَامَ ابْنُ الْكَوَّاءِ إِلَى عَلَيٍّ، فَقَالَ: مِنَالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيهمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، قَالَ: وَيْلُكَ أَهْلُ حَرُورَاءَ مِنْهُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ ابْنِ عَشْمَةَ، قَالَ: ثَنَا مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: ثَنَى أَبُو الْحُوَيْرِثِ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ الْكَوَّاءِ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: مَا الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيهمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؟ قَالَ: أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا، أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَنَى بِقَوْلِهِ {هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} كُلَّ عَامِلٍ عَمَلًا يَحْسَبُهُ فِيهِ مُصِيبًا، وَأَنَّهُ لِلَّهِ بِفِعْلِهِ ذَلِكَ مُطِيعٌ مُرْضٍ، وَهُوَ بِفِعْلِهِ ذَلِكَ لِلَّهِ مُسْخِطٌ، وَعَنْ طَرِيقِ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ جَائِرٌ كَالرَّهَابِنَةِ وَالشَّمَامِسَةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي ضَلَالَتِهِمْ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ بِاللَّهِ كَفَرَةٌ، مِنْ أَهْلِ أَيِّ دِينٍ كَانُوا. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي وَجْهِ نَصْبِ قَوْلِهِ (أَعْمَالًا)، فَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ: نُصِبَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَدْخَلَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ وَالنُّونَ فِي الْأَخْسَرِينَ لَمْ يُوصَلْ إِلَى الْإِضَافَةِ، وَكَانَتِ الْأَعْمَالُ مِنَ الْأَخْسَرِينَ فَلِذَلِكَ نُصِبَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هَذَا بَابُ الْأَفْعَلِ والْفُعْلَى، مِثْلُ الْأَفْضَلِ وَالْفُضْلَى، وَالْأَخْسَرِ والْخُسْرَى، وَلَا تَدْخُلُ فِيهِ الْوَاوُ، وَلَا يَكُونُ فِيهِ مُفَسَّرٌ، لِأَنَّهُ قَدِ انْفَصَلَ بِمَنْ هُوَ كَقَوْلِهِ: الْأَفْضَلُ وَالْفُضْلَى، وَإِذَا جَاءَ مَعَهُ مُفَسَّرٌ كَانَ لِلْأَوَّلِ وَالْآخَرِ، وَقَالَ: أَلَّا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ حَسَنٍ وَجْهًا، فَيَكُونُ الْحُسْنُ لِلرَّجُلِ وَالْوَجْهِ، وَكَذَلِكَ كَبِيرٌ عَقْلًا وَمَا أَشْبَهَهُ قَال: وَإِنَّمَا جَازَ فِي الْأَخْسَرِينَ، لِأَنَّهُ رَدَّهُ إِلَى الْأَفْعَلِ والْأفْعَلَةِ. قَالَ: وَسَمِعْتُ الْعَرَبَ تَقُولُ: الْأَوَّلَاتُ دُخُولًا وَالْآخِرَاتُ خُرُوجًا، فَصَارَ لِلْأَوَّلِ وَالثَّانِي كَسَائِرِ الْبَابِ قَالَ: وَعَلَى هَذَا يُقَاسُ. وَقَوْلُهُ: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يَقُولُ: هُمُ الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ عَمَلُهُمُ الَّذِي عَمِلُوهُ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا عَلَى هُدًى وَاسْتِقَامَةٍ، بَلْ كَانَ عَلَى جَوْرٍ وَضَلَالَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ عَمِلُوا بِغَيْرِ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ بَلْ عَلَى كُفْرٍ مِنْهُمْ بِهِ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا: يَقُولُ: وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ بِفِعْلِهِمْ ذَلِكَ لِلَّهِ مُطِيعُونَ، وَفِيمَا نَدَبَ عِبَادَهُ إِلَيْهِ مُجْتَهِدُونَ، وَهَذَا مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى خَطَأِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُلَا يَكْفُرُ بِاللَّهِ أَحَدٌ إِلَّا مِنْ حَيْثُ يَقْصِدُإِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِوَحْدَانِيَّتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَنَّ سَعْيَهُمُ الَّذِي سَعَوْا فِي الدُّنْيَا ذَهَبَ ضَلَالًا وَقَدْ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُحْسِنُونَ فِي صُنْعِهِمْ ذَلِكَ، وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ. وَلَوْ كَانَ الْقَوْلُ كَمَا قَالَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِاللَّهِ أَحَدٌ إِلَّا مِنْ حَيْثُ يَعْلَمُ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ فِي عَمَلِهِمُ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْسَبُونَ فِيهِ أَنَّهُمْ يَحْسُنُونَ صُنْعَهُ، كَانُوا مُثَابِينَ مَأْجُورِينَ عَلَيْهَا، وَلَكِنَّ الْقَوْلَ بِخِلَافِ مَا قَالُوا، فَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ بِاللَّهِ كَفَرَةٌ، وَأَنَّ أَعْمَالَهُمْ حَابِطَةٌ. وَعَنَى بِقَوْلِهِ: {أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} عَمَلًا وَالصُّنْعُ وَالصَّنْعَةُ وَالصَّنِيعُ وَاحِدٌ، يُقَالُ: فَرَسٌ صَنِيعٌ بِمَعْنَى مَصْنُوعٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفْنَا صِفَتَهُمْ، الْأَخْسَرُونَ أَعْمَالًا الَّذِينَ كَفَرُوا بِحُجَجِ رَبِّهِمْ وَأَدِلَّتِهِ، وَأَنْكَرُوا لِقَاءَهُ {فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} يَقُولُ: فَبَطَلَتْ أَعْمَالُهُمْ، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا ثَوَابٌ يَنْفَعُ أَصْحَابَهَا فِي الْآخِرَةِ، بَلْ لَهُمْ مِنْهَا عَذَابٌ وَخْزِيٌ طَوِيلٌ {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَلَا نَجْعَلُ لَهُمْ ثِقْلًا. وَإِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ: أَنَّهُمْ لَا تَثْقُلُ بِهِمْ مَوَازِينُهُمْ، لِأَنَّ الْمَوَازِينَ إِنَّمَا تَثْقُلُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَلَيْسَ لِهَؤُلَاءِ شَيْءٌ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَتَثْقُلُ بِهِ مَوَازِينُهُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَمِرٍ، عَنْ أَبِي يَحْيَى عَنْ كَعْبٍ، قَالَ: يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِرَجُلٍ عَظِيمٍ طَوِيلٍ، فَلَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، اقْرَءُوا {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ الصَّلْتِ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «يُؤْتَى بِالْأَكُولِ الشَّرُوبِ الطَّوِيلِ، فَيُوزَنُ فَلَا يَزِنُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ" ثُمَّ قَرَأَ {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}»)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أُولَئِكَثَوَابُهُمْ جَهَنَّمُ بِكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ، وَاتِّخَاذِهِمْ آيَاتِ كِتَابِهِ، وَحُجَجَ رُسُلِهِ سُخْرِيًّا، وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِرُسُلِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُـزُلًا خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ الَّذِينَ صَدَّقُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَقَرُّوا بِتَوْحِيدِ اللَّهِ وَمَا أَنْـزَلَ مَنْ كُتُبِهِ وَعَمِلُوا بِطَاعَتِهِ، كَانَتْ لَهُمْ بَسَاتِينُ الْفِرْدَوْسِ، وَالْفِرْدَوْسُ: مُعْظَمُ الْجَنَّةِ، كَمَا قَالَ أُمَيَّةُ: كَـانَتْ مَنَـازِلُهُمْ إِذْ ذَاكَ ظَـاهِرَةً *** فِيهَـا الْفَـراديسُ والْفُومـانُ والْبَصَـلُ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَعْنَى الْفِرْدَوْسِ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِهِ أَفْضَلَ الْجَنَّةِ وَأَوْسَطَهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا عَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: الْفِرْدَوْسُ: رَبْوَةُ الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُهَا وَأَفْضَلُهَا. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي سُرَيْجٍ الرَّازِّيُ، قَالَ: ثَنَا الْهَيْثَمُ أَبُو بِشْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْفَرْجُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ لُقْمَانَ، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: سُئِلَ أَبُو أُسَامَةَ عَنِ الْفِرْدَوْسِ، فَقَالَ: هِيَ سُرَّةُ الْجَنَّةِ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي سُرَيْجٍ، قَالَ: ثَنَا حَمَّادُ بْنُ عَمْرٍو النَّصِيبِيُّ، عَنْ أَبِي عَلَيٍّ، عَنْ كَعْبٍ، قَالَ: لَيْسَ فِي الْجِنَانِ جَنَّةٌ أَعْلَى مِنْ جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ، وَفِيهَا الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الْبُسْتَانُ بِالرُّومِيَّةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ الرَّمْلِيُّ، قَالَ: ثَنَا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: الْفِرْدَوْسُ: بُسْتَانٌ بِالرُّومِيَّةِ. حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الْبُسْتَانُ الَّذِي فِيهِ الْأَعْنَابُ. حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ كَعْبٍ، قَالَ: جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ الَّتِي فِيهَا الْأَعْنَابُ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ، مَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي سُرَيْجٍ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: ثَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْجَنَّةُ مِئَةُ دَرَجَةٍ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مَسِيرَةُ عَامٍ وَالْفِرْدَوْسُ أَعْلَاهَا دَرَجَةً، وَمِنْهَا الْأَنْهَارُ الْأَرْبَعَةُ، وَالْفِرْدَوْسُ مِنْ فَوْقِهَا، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْس». حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: ثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: ثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْجَنَّةُ مِئَةُ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَعْلَاهَا الْفِرْدَوْسُ، وَمِنْهَا تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ الْأَرْبَعَةُ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْس». حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: ثَنِي أَبُو يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِلَالِ بْنِ أُسَامَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَوْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدريِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهَا أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّة». حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَامِرٍ، قَالَ: ثَنَا فُلَيْحٌ، عَنْ هِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عُمْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: "«وَسَطُ الْجَنَّةِ" وَقَالَ أَيْضًا: " وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَوْ تَتَفَجَّر». حَدَّثَنِي عَمَّارُ بْنُ بِكَارٍ الْكُلَاعِيُّ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ثَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالْفِرْدَوْسُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُهَا، وَفَوْقُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهَا تَفَجَّرَ أَنْهَارُ الْجَنَّهِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْس». حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، قَالَ: ثَنَا الْحَارِثُ بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ أَرْبَعَةٌ، اثْنَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ حِلْيَتُهُمَا وَآنِيَتُهُمَا، وَمَا فِيهِمَا مِنْ شَيْءٍ، وَاثْنَتَانِ مِنْ فِضَّةٍ حِلْيَتُهُمَا وَآنِيَتُهُمَا، وَمَا فِيهِمَا مِنْ شَيْء». حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي سُرَيْجٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو نَعِيمٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو قَدَامَةَ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنَيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ أَرْبَعٌ: ثِنْتَانِ مِنْ ذَهَبٍ حِلْيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَثِنْتَانِ مِنْ فِضَّةٍ حِلْيَتُهُمَا وَآنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا». حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ حَفْصٍ، عَنْ شَمِرٍ، قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ جَنَّةَ الْفِرْدَوْسِ بِيَدِهِ، فَهُوَ يَفْتَحُهَا فِي كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ، فَيَقُولُ: ازْدَادَي طِيبًا لِأَوْلِيَائِي، ازْدَادَي حُسْنًا لِأَوْلِيَائِي. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: سَمِعْتُ مُخَلَّدَ بْنَ الْحُسَيْنِ يَقُولُ: وَسُئِلَ عَنْهَا، قَالَ: سَمِعْتُ بَعْضَ أَصْحَابِ أَنَسٍ يَقُولُ: قَالَ: يَقُولُ: أَوَّلُهُمْ دُخُولًا إِنَّمَا أَدْخَلَنِي اللَّهُ أَوَّلَهُمْ، لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَفْضُلَ مِنِّي، وَيَقُولُ آخِرُهُمْ دُخُولًا إِنَّمَا أَخَّرَنِي اللَّهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ مِثْلَ الَّذِي أَعْطَانِي".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}. يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قُلْ) يَا مُحَمَّدُ: {لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا} لِلْقَلَمِ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ {لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ} مَاءُ {الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} يَقُولُ: وَلَوْ مَدَدْنَا الْبَحْرَ بِمِثْلِ مَا فِيهِ مِنَ الْمَاءِ مَدَدًا، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: جِئْتُكَ مَدَدًا لَكَ، وَذَلِكَ مِنْ مَعْنَى الزِّيَادَةِ. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِهِمْ: وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا، كَأَنَّ قَارِئَ ذَلِكَ كَذَلِكَ أَرَادَ: لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي، وَلَوْ زِدْنَا بِمِثْلِ مَا فِيهِ مِنَ الْمِدَادِ الَّذِي يَكْتُبُ بِهِ مِدَادًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى "ح" وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} لِلْقَلَمِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْبَرْقِيِّ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ وَابْنُ الدَّرَاوَرْدِيِّ، قَالَا ثَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، كُلُّ دَرَجَةٍ مِنْهَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَعْلَى دَرَجَةٍ مِنْهَا الْفِرْدَوْس». حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى الصُّوفِيُّ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْفَرَجِ الطَّائِيُّ، قَالَ: ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْفِرْدَوْسُ مِنْ رَبْوَةِ الْجَنَّةِ، هِيَ أَوْسَطُهَا وَأَحْسَنُهَا». حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، قَالَ: أَخْبَرْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ الْفِرْدَوْسَ هِيَ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَحْسَنُهَا وَأَرْفَعُهَا». حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ، قَالَ: ثَنَا رُوحُ بْنُ عُبَادَةَ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ «نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِلرَّبِيعِ ابْنَةِ النَّضْرِ " يَا أُمَّ حَارِثَةَ، إِنَّهَا جِنَانٌ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى". وَالْفِرْدَوْسُ: رَبْوَةُ الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُهَا وَأَفْضَلُهَا». وَقَوْلُهُ: (نُـزُلًا) يَقُولُ: مَنَازِلُ وَمَسَاكِنُ، والْمَنْـزِلُ: مِنَ النُّـزُولِ، وَهُوَ مِنْ نُـزُولِ بَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ. وَأَمَّا النُّـزُلُ: فَهُوَ الرَّيْعُ، يُقَالُ: مَا لِطَعَامِكُمْ هَذَا نُـزُلٌ، يُرَادُ بِهِ الرَّيْعُ، وَمَا وَجَدْنَا عِنْدَكُمْ نُـزُلًا أَيْ نُـزُولًا. وَقَوْلُهُ: (خَالِدِينَ) يَقُولُ: لَابِثِينَ فِيهَا أَبَدًا {لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} يَقُولُ: لَا يُرِيدُونَ عَنْهَا تَحَوُّلًا وَهُوَ مَصْدَرُ تَحَوَّلْتُ، أُخْرِجَ إِلَى أَصْلِهِ، كَمَا يُقَالُ: صَغُرَ يَصْغُرُ صِغَرًا، وَعَاجَ يَعُوجُ عَوَجًا.
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} قَالَ: مُتَحَوَّلًا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي}يَقُولُ: إِذًا لَنَفِدَ مَاءُ الْبَحْرِ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ اللَّهِ وَحِكَمِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ يَا مُحَمَّدُ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ مَنْ بُنِيَ آدَمَ لَا عِلْمَ لِي إِلَّا مَا عَلَّمَنِي اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ يُوحِي إِلَيَّ أَنَّ مَعْبُودَكُمُ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، مَعْبُودٌ وَاحِدٌ لَا ثَانِيَ لَهُ، وَلَا شَرِيكَ {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} يَقُولُ: فَمَنْ يَخَافُ رَبَّهُ يَوْمَ لِقَائِهِ، وَيُرَاقِبُهُ عَلَى مَعَاصِيهِ، وَيَرْجُو ثَوَابَهُ عَلَى طَاعَتِهِ {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} يَقُولُ: فَلْيُخْلِصْ لَهُ الْعِبَادَةَ، وَلِيُفْرِدْ لَهُ الرُّبُوبِيَّةَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} قَالَ: ثَوَابُ رَبِّهِ. وَقَوْلُهُ {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} يَقُولُ: وَلَا يُجْعَلُ لَهُ شَرِيكًا فِي عِبَادَتِهِ إِيَّاهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ جَاعِلًا لَهُ شَرِيكًا بِعِبَادَتِهِ إِذَارَاءَى بِعَمَلِهِ الَّذِي ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُرِيدٌ بِهِ غَيْرَهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} قَالَ: لَا يُرَائِي. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ طَاوُسٍ، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أُحِبُّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَنْ يُرَى مَوْطِنِي وَيُرَى مَكَانِي، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}» حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَمُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ الزِّنْجِيِّ عَنْ صَدَقَةَ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: "«جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَزَادَ فِيهِ: وَإِنِّي أَعْمَلُ الْعَمَلَ وَأَتَصَدَّقُ وَأُحِبُّ أَنْ يَرَاهُ النَّاس»" وَسَائِرُ الْحَدِيثِ نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، قَالَ: ثَنَا حَمْزَةُ أَبُو عُمَارَةَ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، قَالَ: " جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ: أَنْبِئْنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ، أَرَأَيْتَرَجُلًا يُصَلِّي يَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ وَيُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَوَيَصُومُ وَيَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ وَيُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَ، فَقَالَ عُبَادَةُ: لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ، «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: أَنَا خَيْرُ شَرِيكٍ، فَمَنْ كَانَ لَهُ مَعِي شَرِيكٌ فَهُوَ لَهُ كُلُّهُ، لَا حَاجَةَ لِي فِيه». حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَمْرٍو السُّكُونِيُّ، قَالَ: ثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ: ثَنَا عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} وَقَالَ: إِنَّهَا آخِرُ آيَةٍ نَـزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ. آخَرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْكَهْفِ.
|